فكريةمجتمعمقالاتمنوعات

الإمام الحسين(عليه السلام)، نهضة ثورية مجردة أم مسيرتكامليّ أبديّ؟

فاطمة شكر

على أعتاب شهر أحزان محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) الذي انتهكت فيه حرماتهم و ضُيِّعَت حقوق قرابتهم وأجور مودتهم، نتساءل لماذا حظيت عاشوراء بهذه المكانة المتميزة الخالدة بين كل الحركات الثورية في العالم وما الفرق بين حركة ثورية يقودها المعصوم عن غيرها؟
إن استعراضاً بسيطاً لمجرى الأحداث منذ قطع الإمام أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) حجّه في الثامن من ذي الحجة متوجهاً من مكة المكرمة إلى العراق وحتى وقوع فاجعة الطف في العاشر من محرم يوضح لنا بسهولة أن هدف الإمام لم يكن محض الانتصار العسكري فقط، ابتدأ ذلك عندما لم يأبه بالعدد اللاحق به و وضع أصعب شرطين للالتحاق بركبه الشريف حين قال: (ألا ومن كان باذلاً فينا مُهجتَه موطّناً على لقاء الله نفسَه فليرحلْ معنا‎، فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله)

 

أولاً بذل المهجة في سبيل الله، و ثانياً أن تستعدَّ للفناء في الله ولقائِهِ،

 

فالإمام في رحلة إيصال أصحابه لمقام (خليفة الله في أرضه) وصناعة النفوس، ولم تتوقف مسيرة الحُسين باستشهاده بل هو ماضٍ في تهذيب وتزكية كل من التحق به و لبى نداءه…فالدعوة مُطلقة الزمان والمكان، ظاهرُها نهضة ضد الطاغية يزيد وباطنُها نهضةٌ بوجهِ ألفِ يزيدٍ يسكنُ بواطنَنا،
و بعثه بتلك الرسالة الملكوتية العجيبة لأخيه محمد:
(أمَّا بَعد،
فَكَأنَّ الدُّنيَا لَم تَكُن، وَكَأنَّ الآخِرَةَ لَم تَزَل…
وَالسَّلَام.)
لو درسنا وتأملنا في الحالة النفسية للإمام (عليه السلام) نجد أنه كان يعيش في عالم التسليم المطلق والتفويض لله تعالى ولا يبدو أبداً كشخص يسير إلى منيته، لا يعير بالاً لنداء: (القوم يسيرون والمنايا تسير بهم)، فهو عاشق كل همِّه أن يرجعَ لمحبوبه راضياً مرضياً فكان يكثر من الاسترجاع (إنا لله وإنا إليه راجعون)،
ثم استشهاد مسلم ابن عقيل (عليه السلام) و تأملنا في حالته يقودنا لذات النقطة كذلك أن نهضة الحُسين كانت مسيراً معنوياً تكاملياً يريد الارتقاء بالإنسان إلى مستوى خلافة الله في الأرض،

 

فلماذا اختارَ الحُسين مسلماً ابن عقيل سفيراً له دون جميع رجال بني هاشم؟

 

ما الذي كان يميزه جدّاً حتى قال فيه (عليه السلام):(وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل بن أبي طالب…)؟!
لقد تفرّسَ فيه الإمام الحُسين فوجد أن مسلم ابن عقيل هو أقرب الناس إلى فهم رسالته ونهضته(عليه السلام) وقد رأينا ذلك عمليّاً حين طبّقه ابن عقيل في بيت هانئ ابن عروة إذ رفض أن يقوم باغتيال ابن زياد (يقتلَه غدراً) ذلك لأنه كان يفهم جيّداً ما الهدف من النهضة الحسينية، تقويم الأخلاق وتهذيب السلوك وليس الانتصار والغلبة، كان بإمكان مسلم أن يحقق انتصاراً عسكرياً مهماً جداًوربما تتغير مجرى الأحداث تماماً لو أنه أقدم على الاغتيال كما اقترحوا لكنّه أبى ذلك لأنه فكّر في نفسه فعرفَ أنها ليست أخلاق الحُسين وآل أبي طالب ففضّلَ أن يموت في سبيل المبدأ والقضية ولا يفرط بهما لنصرة دنيوية زائلة، كما أخيه الحُسين الذي لم يمنع أعداءه من الاستقاء من نهر الفرات رغم علمه أنهم سيمنعوه لكنّ الإمام الحُسين لم يكُن مجرد خليفةٍ يريد أن يظفر بإمرة المؤمنين وإنما كان في مهمةِ تزكية وتهذيب النفوس وإجراء حكم الله على الإنسان في إيصاله لمقام خلافة الله في الأرض.

 

الحُسين الذي لم يفسد في الأرض ولا حتى بمقدار الابتداء بقتالهم فقال: (لا أحب أن أبدأهم بقتال)،
الحُسين الذي إن أردنا وصفه دقيقاً وجدنا حقيقة حاله على لسان صاحب الزمان في الناحية المقدسة،
نتعلم منه كيف نواجه رأس الكفر والشرك وسبب الفساد مباشرةً دون خوف أو وجل فلم يتوجه الإمام لابن زياد أو غيره من ولاة يزيد بل توجه مباشرة لرأس السلطة وسبب انحراف الأمة يزيد عليه لعنة الله، ليبين لنا الإمام أن سبب شقاء كل أمةٍ هو انحرافاتها الأخلاقية وابتعادها عن الدين القويم والشريعة الحقة، بمقدار ما يتبع الإنسان هوى نفسه يشقى في الدنيا والآخرة،

 

فالحلُّ ماضياً وحاضراً و مستقبلاً يكون بشيء واحد لا غير هو “الرجوع إلى الله” والطريق هو “الحسين” والوسيلة شهر محرم،
يريد الحُسين ابن علي أن يلفت انتباهنا إلى أن الهجرة واجبة إذا ما فشى الظلم والطغيان و استمكنت النفس الأمارة بالسوء فلابد من قمع يزيد باطننا وهوى أنفسنا، أن نخرج لطلب الإصلاح في أنفسنا لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا ميداننا الأول كما يقول الأمير(عليه السلام): (النفس ميدانكم الأول)،
كان الإمام الحسين إلهياً كل ذرات كيان وجوده تبوح بعشقه فحين لم تكن تفصله سوى لحظات عن حز نحره كان مشغولاً بمحبوبه وذكره: (اللهم متعالي المكان عظيم الجبروت…)، وفي الليلة السابقة لشهادته يرسل أخاه أبا الفضل (عليه السلام) يطلب من القوم أن يمهلوهم سواد هذه الليلة لأن الحسين يريد أن يقضيها بالعبادة، كان منقطعاً تماما عن عالم الكثرات لا يفكر سوى بواحدٍ أحد ولا يكترث للنتائج، ثم وبعد أن استشهد صلوات الله عليه وصار قبلة للعشاق والشهداء والأحرار تستلهم منه كل الموجودات فنَّ الحُب والفناء في ذات الله، كان دور السيدة زينب ليتجلى لنا فيها صورة الإنسان الكامل،

 

تأتي ليلة الحادي عشر، يقول الناعي: و صلّت زينب صلاة الليل من جلوس…
فنتساءل: كيف يُمكنُ للإنسان أن يكون عاشقاً لهذا الحد؟!
كان إبليس يحوم هناك، يحاول أمراً عبثاً، أن يستفز هذا العشق،
فجمع فنادى: “كيف رأيتِ صُنعَ اللهِ بأخيكِ؟!”
لم يتوقع إبليس صاعقةً مثل (ما رأيتُ إلا جميلاً..)،
هذا نوع احتراق بالحُب لا يفهمه المستكبرون،
لا يستطيعون أن يلمسوا معنى أن يكونَ مخلوقٌ بهذا القرب والمساس والاندكاك بذات الله،
ثم وكأن السيدة العقيلة لم تقتنع بهذا المقدار فقط،
أرادت أن تكشف لهم كيف يكون الذوبان كسكّرٍ في شايٍ، كيف يكون الفناء،
أعطت للبشر أعظم درسٍ في العشق،
تقدمت بضع خطوات، وضعت يدها تحت روحها التي صارت نهباً للرماح والأحزان، رفعته قرباناً لمحبوبها، (خُذْ حتى ترضى)،
و خرجَت سبيةً…لتُريَهم حقيقةً كيف يكون المُحب..
ذاك القلب الذي صار جبلاً للصبر و لم يندكّ حين تجلّى له الإله،
ذاك القلب هو ما ألقى بصبغته عليها، حتى قال أهل الكوفة: (كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب )…
علي الذي لم يعرفه أحدٌ إلا الله و رسوله،
زينب شابهت أباها…لم يعرفها أحدٌ إلا الله..

محرم الحرام هو فرصة لتعميق الارتباط بالإمام الحسين( عليه السلام) ليوصلَنا إلى ما أوصلَ إليه أولئك السبعين وغيرهم من الأولياء الصالحين الذين نهلوا طويلاً من موائد أبي عبدالله وفيوضاته،
محرم فرصة البدء من جديد، وإنما جمال الفرص في اغتنامها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock