فعاليات وأنشطة

كلمة سماحة الشيخ حميد الصفار الهرندي (أعزه المولى ) في الندوة الفكرية: طوفان الأقصى وترسيخ قواعد النصر من منظور محور المقاومة

بسم الله الرحمن الرحيم

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ

يتجدَّدُ اللقاء أيها الإخوةُ الكرامُ في رحابِ شهرِ اللهِ الأعظم، شهرِ البصيرةِ والجهادِ، شهرِ الوفاءِ للقضيةِ المقدسةِ الجامعةِ لأطيافِ الأمة، قضيةِ فلسطينَ العزيزة، وفي يومِ القدس، الذي أعلنهُ الإمامُ روحُ اللهِ الخميني قدس سره ليكون قلباً نابضاً وصوتاً هاتفاً في عقلِ الأمة وعاطفتِها، يستنهِضُها إذا فَتَرتْ ويُذكّرُها إذا نَسِيَتْ.

وإذا كان الالتزامُ الرساليُّ بقضية فلسطينَ موقفاً ثابتاً راسخاً لا يتبدّلُ، فإنهُ في ظلِّ الواقع الحالي يزدادُ عمقاً وإلحاحاً، ونحن نرى هذه الهجمةَ الصهيونيةَ الشرسةَ التي تعجِزُ الكلماتُ عن وصفِ عدوانيّتها وقَذارتِها، حيث لم تُبقِ لوناً من ألوانِ الإجرامِ إلا مارستْهُ على الشعب الفلسطيني المظلوم، على مَرأى ومسمعٍ من هذا النظامِ العالميِّ الفاجر، الذي يدّعي الإنسانيةَ والحضارة.

لقد كانَ أصحابُ البصيرةِ على يقينٍ تامٍ – منذُ نشوءِ هذا الكيانِ اللقيطِ – بأنهُ ورمٌ خبيثٌ، ومنطقُ الحقِّ يقضي بأنْ لا مكانَ ولا مستقبلَ له في هذه الأرض، وأنّ الموقفَ منه ليس موقفَ محاصصةٍ أو نزاعَ تعايُشٍ، بل موقفُ صراعٍ وُجودي يمَسُّ كِيانَ الأمةِ وعقيدَتَها ومقدساتِها ومصيرَ أبنائِها.

إنّ ما فجّرتْهُ المقاومةُ الإسلاميةُ الفلسطينيةُ الباسلةُ في السابعِ من تشرينَ الأول من العامِ الماضي كانَ ثمرةَ رؤيةٍ جهاديةٍ نقية، وحصيلةَ سنواتٍ من الصبرِ والاستعدادِ والتنسيقِ مع إخوةِ القضيةِ والسلاحِ في محور المقاومة، ونتيجةَ سَيلٍ من الآلامِ والقهرِ المتولّدِ عن وحشيةِ هذا العدوِّ الوجوديِّ الغاشم، فكان هذا إذاً رداً طبيعياً منطقياً أخلاقياً من أصحابِ الحقِ الواضحِ على آلةِ القتلِ والتدميرِ والحِصار، التي زرعَها الاستكبارُ العالميُّ في قلبِ الأمة، لتفتِكَ بها وتُمزِّقَ أسبابَ قوّتِها وتُدنِّسَ مقدساتِها؛ طمعاً في إخمادِ جَذوةِ الجهادِ والمقاومةِ إلى غيرِ رَجعة.

واليوم، بعد انقضاءِ ما يقرُبُ من ستةِ أشهُرٍ على انطلاقِ طوفانِ الأقصى المبارك، والعدوانِ الصهيونيِّ الشرسِ المدعومِ من الاستكبار العالمي، والمؤيَّدِ بِتخاذُلِ وصمتِ – بل وتواطُؤِ – كثيرٍ من الأنظمة الإسلامية والعربية، تقفُ المقاومةُ عزيزةً شامخةً تصدحُ بنداءِ الإباءِ الذي أطلقَهُ سبطُ محمدٍ صلى الله عليه وآله؛ لِيؤسّسَ للأمةِ – بل للإنسانيةِ قاطبةً – إحدى قواعدِ النصرِ حين قال سلام الله عليه: “هيهاتَ منّا الذلة”، فالعزيز بدينِهِ وكرامتِهِ منتصرٌ وإنْ كان متشحطاً بدمهِ.

وعلى تُخُومِ فِلسطين، وعلى امتدادِ بُلدانِ محورِ المقاومةِ المبارك، يقف المجاهدون على العهدِ والوعدِ، واليدُ على الزناد، والعينُ على غزةَ المظلومةِ الشامخةِ، يُسانِدونَ النارَ بالنار، ويشارِكونَ الدماءَ بالدماءِ، ويُمرِّغونَ أنفَ العدوِّ في الوحلِ، ويكسِرونَ كل قواعدِ عَنجَهيّتهِ التي تَوَهّمَ أنْ لا أحدَ يجرُؤُ على الاقترابِ منها، وتلك قاعدةٌ أخرى من قواعد النصر القادم إن شاء الله؛ وهي انتفاضة المظلوم في وجهِ الظالم، وتغيير قواعد المواجهة من حالةِ تلقي الصفعات باستسلامٍ إلى حالةِ الفاعليةِ والإقدام.

وفي مقابلِ هذه الصورةِ المشرقةِ للإباءِ والتضحية، تقفُ شعوبُنا أمامَ سيلٍ عارمٍ من الدعايةِ المسمومة للاستكبارِ وأذيالِهِ من المسلمينَ والعرب، دعايةٌ تَستهدِفُ وعيَ أبناءِ الأمةِ بِحقّانيةِ القضية، وترمي إلى قلبِ المفاهيمِ وزعزعةِ إيمانِ المظلومينَ بِحقيقةِ مَظلوميّتهمْ، وتشويهِ معاني الجهادِ والمقاومة، وتحطيمِ الروحِ المعنوية.

فللنطلقْ من ثوابت إسلامنا وتاريخنا، وَلنرصُدْ مواقف النصر التي منّ الله بها على المستضعفين والمظلومين، ولنتأملْ كيف يعرض لنا القرآن الكريم وتاريخُ القادةِ الألهيين قواعدَ النصر وعلائمَهُ وبِشاراتِهِ.

فها هو القرآن يصف لنا خروج موسى عليه السلام ببني إسرائيل وهم ملاحقون بجيش فرعونَ المخيفِ العازمِ على استئصالهم، حتى إذا أُطبِقَ عليهم الحصارُ وأُسقِطَ في أيديهم قالوا إنا لَمُدرَكون فكان جوابُ موسى المؤمنِ بربّهِ وعدالةِ قضيته وقُدسيّةِ مقاومته: كلا إنَّ مَعِيَ ربي سيهدين فيأتي النصر لِيُتوّجَ تضحيات المقهورين وثبات المؤمنين.

ثم تتكرر الصورة في خروجِ الرسولِ الأكرمِ محمدٍ صلى الله عليه وآله من مكةَ وحيداً غريباً، بعد ارتحالِ ناصِرَيهِ أبي طالبٍ وخديجةَ رضوان الله عليهما، لتنفتحَ أمامهُ بعد الهجرة أبوابُ النصرِ والتمكين بما يتجاوز الحساباتِ الماديةَ الطبيعيةَ، التي اعتادَ الناسُ قياسَ النصرِ والهزيمةِ على أساسها.

وحين كان رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه المسلمون يحفِرون الخندق حول المدينة لاتّقاء شر العدو الذي يحاصرهم، جاءتِ البُشرى الإلهيةُ بفتحِ بلادِ فارسَ والروم، فلم يحتملْ بعضُ ضعافِ الإيمانِ ذلكَ، فأخذوا يُشاركونَ المنافقينَ في الاستهزاءِ بهذه البشرى قائلين: “يعِدُنا محمدُ أن يَفتحَ مدائنَ كِسرى وقيصَرَ ونحنُ لا نأمنُ أن نذهبَ إلى الخلاء؟” وقد حكى الله تعالى تشكيكَهُمْ هذا فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، فكان النصر من جديدٍ مرتبطاً بالتسديد الإلهيّ، بعد صدق الاعتقاد والنهوضِ بالواجبِ الإيماني.

وحين خرجَ أبو الأحرارِ وقدوةُ الثائرينَ والمقاومين، الإمامُ الحسينُ بنُ عليٍّ صلوات الله وسلامه عليهما من مكةَ قاصداً الكوفة، كان ظاهرُ أمرهِ أنه يخرجُ إلى مواجهةٍ غيرِ متكافئةٍ بالمقاييسِ المتعارَفِ عليها، فجاءَهُ عددٌ من كبار الصحابة والهاشميين، بين ناصحٍ يريد أنْ يُثنيَهُ عن قصدهِ، وبين حاملٍ أماناً له من أميرِ مكةَ آنذاك، وبين باكٍ عليه إشفاقاً مما يؤول إليهِ أمرُهُ، فكان جوابُ الإمام موجِزاً شارحاً معنى النصر والفتح بالأبعادِ الإلهية الرسالية إذ قال: “ من لحق بي منكم استُشهِد، ومن تخلّف لم يبلُغ مبلغَ الفتحَ”، وأي فتحٍ هذا؟ إنه الفتحُ القائمُ على سلامةِ الرؤيةِ وصوابيّةِ استشعارِ التكليفِ الإلهي، وشجاعةِ بذلِ كلِ غالٍ في سبيلِ الحق، إنه فتحُ أولئك الذين اختاروا أنْ يبيعوا لله نفوسهم، لِيُجيبهم سبحانه: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

وعلى الظاهر فقد كان يزيدُ وعبيدُ الله بن زياد يظنان أنّ المواجهة حُسِمتْ، وأنّ شعلة الحسين انطفأت إلى غير رجعة وأنّ النصرَ المزعومَ باتَ في أيديهم، وأنّ مشاهد الجثامينِ المباركةِ المقطعةِ على الرمال ضمانةُ نصرٍ أكيد، إلا أنّ ارتداداتِ ثورة الحقّ الحسينيّ أثمرتْ نصراً للدمِ على السيف، لتؤسسَ بذلك لقاعدةٍ من قواعد النصر، ولمدرسةٍ خالدةٍ خلودَ دينِ الله، يتعلمُ في رحابِها الأحرارُ كيف تكون المظلوميةُ المتكئةُ على الإيمانِ بالله سلاحاً لا يُكسر وقوةٌ لا تُقهَر.

وفي تجربة الثورة الإسلامية عندما شهدت طهران تظاهر آلاف المؤيدين للثورة يوم الثامن من أيلول لعام 1978وعمِدت قوات الشاه إلى إطلاق النار وارتكاب مجزرة بحق الآلاف، سرى الخوف من حدوث مجازر مشابهة لتلك التي حصلت في انتفاضة الخامس عشر من خرداد، إلا أنّ الإمام الخميني قدس سره أرسى هنا أيضاً قاعدة النصر الحقيقي حين أكد على دور التضحية والصبر في استنزال النصر فقال: شهر محرم شهر انتصار الدم على السيف.

ثم تعالَوا لنقرأَ واقعَ هذا الكِيانِ المجرمِ من منظورِ قائدِنا الإمامِ الخامنئي دام ظله، وهو القارئُ البصيرُ لحركةِ السُننِ الإلهيةِ الاجتماعية، وهو المجاهدُ الربانيُّ الذي شاركَ الإمام الخميني العظيم قدس سره صناعةَ نهضةِ الإسلام المحمدي الأصيل في وجهِ الطاغوتِ المدعومِ من أمريكا والصهيونية، فإمامنا الخامنئي دام ظله يشير إلى دوّامةِ الذُّلِ التي علِقَ فيها كِيان البغي والإجرام فيقول: «لقد اتّضح وضعُ الكيان الصهيوني للجميع، وبات معروفاً أنّ الكيان الصهيوني ليس مأزوماً في حماية نفسه فحسب، بل إنّه يعاني حقّاً أزمةَ الخروجِ من الأزمة أيضاً. إنّه غارقٌ في المستنقع ولا يستطيع إنقاذَ نفسه. تسبّبَ الكيان الصهيوني لنفسه بهذا المستنقع جرّاءَ دخوله غزّة؛ إنْ خرجَ اليومَ من غزّة كان مهزوماً، وإنْ لم يخرجْ منها سيُهزمُ أيضاً».

ومما يدلّ جلياً على الأزمة التي يعيشها كيان العدو الصهيوني والاختناق الذي يشعر به، استهدافاتُهُ الغادرة المتكررة لقياداتٍ في محور المقاومة، يُعرف حق المعرفة أنهم كانوا حتى لحظاتهم الأخيرة من صُنّاع هزائمه والمؤذِنين بقربِ زوالهِ المحتوم، وكان آخرَ غدرهِ الهجومُ الذي استهدف قنصليةَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، بوقاحةٍ ضربتْ عرضَ الحائط بكل المواثيقِ الدولية التي تجرّم استهدافَ البِعثاتِ الديبلوماسية، وجاءتْ الشهادةُ المباركة للواء محمّد رضا زاهدي، والعميد محمد هادي حاج رحيمي ورفاقهما، لِتُعرّيَ جُبنَ وهلعَ كيانِ العدو واستشعارهِ بقربِ هلاكهِ إن شاءَ الله.

وعلى مستوى المحافل الدولية، التي لطالما تغطّى بها الكيان اللقيط واستثمرَ ضَبابيتَها لصالحه، نجد أن وضوحَ الوحشية والعدوان وهَولَ المجازر دفعَهَا إلى عقد الاجتماعات وإصدارِ القرارتِ التي تدينُ الكيانَ المجرم وتُحمِّلهُ وزرَ ما يجري من فظائع، وكذلك تصاعدت التحركاتُ الرسمية وغيرُ الرسمية في كثير من بقاع العالم لفضحِ إجرام ِالصهاينة، وما الدعوى القضائية التي رفعتْها دولةُ جنوبِ إفريقيا أمام محكمةِ العدلِ الدولية إلا مثالٌ واضحٌ على ذلك، وثمرةٌ طبيعية من ثمرات صبرِ المظلومين المضحّين وثباتهم على حقهم.

نعم أيها الاخوة، لقد تجاوز العدوُ الحاقدُ كلَّ التوقعات وكسرَ كل الحدود التي تعارفَ عليها البشر، وداسَ بقدمهِ كلَّ الأعراف والمواثيقِ الدولية، ولكنه في الوقت نفسِه رأى من بأس رجال الله في محور المقاومة، ومن جُرأتهِم وإقدامِهِم واستبسالِهِم في سبيل فلسطين الحبيبة ما لم يكن يتوقعه، فلم تعْدُ مصادر النيران التي تستهدفه من كل حدَب وصوب خافيةً على أحد، بل يُجاهر بها المجاهدون بكل فخر، من لبنانَ العزيز وإيرانَ الإسلام والعراقِ الأصيل واليمنِ الأبيّ، وباتَ مستضعفو الأمس المحاصرون أُسُوداً في ساحات النِزال اليوم ، يكسرون كل خطٍ أحمرَ افتعَلَهُ العدو لنفسه بغروره، ويَعِدُونه بالمزيد من الانتكاسات والهزائم في المقبل من الأيام.

ولولا ما يلقاه هذا العدو من دعمٍ أكابرِ مجرمي العالم، ومن تواطؤِ وصمتِ ذيولِ المنطقة المرتهنين للمشروع الصهيو أمريكي، لكانت الصورةُ الآن مختلفة كثيراً عما هي عليه، وَلَمَا كان أطفالُ غزة محاصرينَ جائعين ملاحقين بالقتل والتهجير في حين أنّ كيانَ العدوِ يُمَدُّ بأسباب البقاء، عبر خطوطِ إغاثة عربيةٍ خيانيةٍ يَندى لها الجبين.

تلك أيها الإخوة قواعدُ النصر التي رشحتْ بها تجربة الخطِّ الرسالي، خطِّ الأنبياء والقادة الإلهيين، خطِّ المظلومين والمستضعفين الذين وعدَ اللهُ سبحانه بنصرهمْ وتمكينهم في الأرض وإهلاك ظالميهم.

وقد اتخذ محور المقاومة من هذه القواعد منهجاً في النهوض بالواجب الجهادي والإنساني، وتمسّكَ بها مرجِعاً في تنقيحِ الرؤى وضبطِ المسار إذا ما ادلهمّت الفتن واستعَرَتْ حربُ الوعي قبل حربِ السلاح، وعَمِلَ ويعملُ على ترسيخها في وعيِ وسلوكِ الأجيالِ القادمة، إلى أن تؤتي أُكُلَها نصراً تاماً شاملاً يتهلّلُ له وجه كل حرٍ وشريفٍ في هذا العالم.

وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock