دينية

دروس من معركة أحد

دروس من معركة أحد

الشيخ مصطفى قصير(*)

بعد النصر الإلهي المؤزر الذي أنزله الله على رسوله وعلى المؤمنين في يوم بدر، والهزيمة التي لحقت بالمشركين، عادت قريش إلى مكة تلملم ذيول الخيبة، وأجمع زعماؤها على الانتقام من محمد صلى الله عليه وآله، واستعادة ماء الوجه الذي فقدوه، فجهزوا أنفسهم وحشدوا رجالهم وأعدوا عدتهم وأخرجوا معهم النساء وتوجهوا نحو المدينة المنورة (يثرب).

* المشاورة والعزم‏
ينقل كتّاب السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع وجوه أصحابه عندما بلغه نبأ خروج المشركين من مكة، واستشارهم قبل وضع خطة الدفاع والمواجهة، وقد أشار عليه بعضهم بالبقاء في المدينة والقتال في الأزقة وبين البيوت، بينما أشار آخرون عليه بالخروج والقتال خارج المدينة. وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله موقفاً حازماً يوافق رأي الأغلبية التي أصرت على الخروج، ولبس لامة حربه وأمر بالخروج إلى جبل أحد. لقد شاور الرسول صلى الله عليه وآله قومه لحكمة نلخصها فيما يلي:

1 – اختبار نياتهم، ومقدار استعدادهم، مما له أثر في وضع الخطة واتخاذ الموقف المناسب.
2 – تحقيق الحد الأعلى من الفاعلية والجهوزية للقتال، نظراً لشعورهم بالمسؤولية تجاه القرار الذي ساهموا بصنعه مما يجعلهم أحرص على إنجاحه.
3 – جعلهم أكثر استعداداً لتحمل النتائج الصعبة والشاقة وربما الخسائر المحتملة، والحيلولة دون إلقاء اللوم والتبعات على كاهل الغير، مما يحدّ من إمكانية نشوء معارضة داخلية وحالة تذمر عند فداحة الخسائر.
4 – هناك حكمة أهم من كل ما تقدم، وهي أن استشارة النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه وهو المسدّد بالوحي تشكّل عملاً تربوياً يساهم في التأسيس لنهج في القيادة يقوم على أساس المشاركة ويحول دون النزوع إلى الاستبداد في الحكم من قبل الحكام من بعده. كما أن الاستشارة تساهم في رفع مستوى الوعي السياسي والإداري، وتدفعهم نحو الإهتمام والبحث عن الحلول وتقييم الآراء والمواقف، الأمر الذي يؤهلهم لتحمل المسؤوليات.
5 – المشاورة أيضاً عملية سياسية تجاه البعض الذين ترى القيادة وجود مصلحة في استمالتهم وتأليف قلوبهم والتعامل معهم بأسلوب يرضي جانباً من طموحاتهم ليأمن جانبهم.
إلى غير ذلك من وجوه الحكمة التي لا تخفى.

* الطاعة والإلتزام‏
يحث القرآن الكريم على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله في كل صغيرة وكبيرة يأمران بها، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم﴾(الأحزاب: 36). وتزداد أهمية الإلتزام بالطاعة في المواقف الحساسة والخطيرة والتي تنعكس نتائجها على مصير الدين والأمة ومقدراتها. ومن ذلك المواقف القتالية. ولعله من أجل ذلك تحرص قيادات الجيوش على تربية الجند على الطاعة بدقة وتعطي هذه القيمة أولوية كبرى مع عدم إسقاط أهمية القيم الأخرى والمهارات والقدرات القتالية المطلوبة، ولا يمكن للقيادة أن تضمن نجاح أية خطة إذا لم تضمن التقيد التام بتفاصيلها من قبل الأفراد والقادة الميدانيين. في “أحد” كانت خطة الحرب تقتضي مرابطة فرقة من الرماة المتمرسين في موقع محدد لتأمين الحماية لظهور المجاهدين من عملية إلتفافية محتملة، وقد جاءت أوامر الرسول صلى الله عليه وآله واضحة، دقيقة، حاسمة، في ضرورة البقاء في الموقع وعدم مغادرته مهما كانت الظروف والأحوال: “قوموا على مصافكم هذا فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا..”.

وقد انتهت الجولة الأولى بنصرٍ واضح، استطاع فيها المسلمون أن يلحقوا الهزيمة بالمشركين. لكن الموقف سرعان ما تغير، وانقلبت الأمور، وتحول النصر إلى هزيمة، فكيف حدث ذلك؟ ذكر بعض كتّاب السيرة أنّ بعض الرماة بعد أن رأوا النصر غرّهم ذلك وغلب عليهم الطمع والرغبة بالفوز بالغنيمة فدعوا أصحابهم إلى النزول، واعتبروا أن المعركة انتهت. ورغم تحذير الثلة القليلة منهم وتذكيرهم بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله لم يلتزموا وعصوا الرسول صلى الله عليه وآله وخالفوا أمره ولم يكن القلة الذين صمدوا هناك قادرين على صد الهجوم الإلتفافي الذي فاجأ الجيش الإسلامي على حين غرّة وفي حالة الغفلة وعدم الاستعداد ولا الجهوزية، مما أدى إلى تضييع النصر وإيقاع الخسائر الفادحة في الأنفس، وتعريض الرسول صلى الله عليه وآله إلى الخطر حيث جرح رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يصمد للدفاع عنه إلا علي عليه السلام على أصح الأقوال. هذا الدرس لا يختص بالموقف آنذاك بل هو درس عام، يمكن أن يحدث في أي مواجهة. فالطاعة التامة والتقيد بالتفاصيل الدقيقة لحظة القتال وأوامر القيادة لا محيص عنها، وليس معنى ذلك المنع من إبداء الرأي ومن التعبير، لكن لكلٍ مقامه، فإنه بالإمكان التعبير عن مكنونات الرأي وعن وجهة النظر ومناقشة كل التفاصيل في مرحلة النقاش والتحضير والإعداد، ويمكن لمن يخالف أن يعتزل المعركة ابتداءً (كما فعل البعض في “أحد”)، أما في الميدان وعند المواجهة فلا بد من الإلتزام بدقة والطاعة التامة تحقيقاً لتماسك الجبهة وصلابة الموقف، ولسد أية ثغرة يمكن أن يستغلها العدو للنفاذ من خلالها والإيقاع بنا.

* دور المنافقين أعداء الداخل‏
في معركة أحد كان للمنافقين وبعض اليهود دور بارز في التخذيل، ثم الشماتة بعد انتهاء المعركة. فقد عمل بعض المنافقين على تخويف المسلمين من قريش وحاولوا إقناعهم بالعودة إلى المدينة قبل احتدام القتال وبالفعل عاد جمع منهم يقودهم أحد المنافقين تحت ذرائع مختلفة مستغلين الاختلاف الذي حصل في وجهات النظر حول كيفية المواجهة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله منذ البداية يتعاطى بحذر مع هذه الشريحة، فأحاط خطته بشي‏ء من السرية، فلم يظهر نيته بالخروج ولم يحدد لهم جهة الخروج إلا في اللحظات الأخيرة، بل أمر بكتمان المعلومات التي كانت تصل عن جيش العدو وعددهم وعدتهم. ولا شك أن أعداء الداخل يشكّلون خطراً لا يقل عن أعداء الخارج، إن لم يكن أشد في كثير من الأحيان، لأنهم يرصدون ويتعرفون إلى مواطن القوة والضعف ويتحولون إلى عيون للعدو وأدوات فتك مباشر. أعداء الداخل يساعدون العدو الخارجي على تحديد الأهداف والثغرات ومواطن الخلل، وينشرون الإشاعات ويبثون الأكاذيب بين الناس مما يساهم في إشاعة الخوف والهزيمة النفسية عند عوام الناس وبسطائهم. قال تعالى مخاطباً هذا الفريق بلغة التهديد: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الأحزاب: 60). ومهما يكن فقد أظهرت معركة أحد واقع الذين تآمروا مع العدو وكشفهم وانفضاح أمرهم حيث راهنوا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وانتهاء أمر المسلمين، فكانت الخطوة اللاحقة تأديب هؤلاء والانتهاء من أراجيفهم ومؤامراتهم. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. هذا غيض من فيض الدروس والعبر التي يمكن استقاؤها من معركة أحد، وما أشبه اليوم بالبارحة.

(*) مدير عام المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock