دينيةمقالات

فضائلُ عليّ عليه السلام ملأت الخافقين

بقلم الشهيد الشيخ/  راغب حرب (رضوان الله عليه)

اقتضت مرحلة الهجرة أن يأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالهجرة سرّاً، وقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرّاً أيضاً، وكان لا بدّ من أن يبقى في مكّة رجلٌ يؤدّي أمانات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى لا يتّهمه المشركون بأنّه استولى عليها، وكان لا بدّ لهذا الرجل من أن يخرج علانيةً؛ ليرُدَّ الاعتبار للمسلمين الذين أُشيع أنّهم خرجوا فراراً ورُعباً، وكان لا بدّ من أن يبيت في فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ ما، صَلب العقيدة، مستعدٌ للفداء، فوقع اختيار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على عليّ عليه السلام…

•عليّ عليه السلام فداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام ما معناه: يا عليّ، أريد أن أهاجر، وأن تبيت مكاني، موضحاً له خطّة قريش لاغتياله بعدما كشفها الله له، فردّ عليّ عليه السلام سائلاً: أوَتسلم يا رسول الله؟، قال: بلى، قال: اذهب روحي لك الفدا. وبقي عليٌّ عليه السلام في مكّة.

بعدما اطمئنّ إلى سلامة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بات عليه السلام في فراشه صلى الله عليه وآله وسلم، في موقفٍ باهى به الله الملائكة، حينما قال لملكين [كما هو مضمونه]: إنّي قد آخيت بينكما، وجعلت عُمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فمن يختار لأخيه طول العمر؟ فاختار كلّ ملكٍ لنفسه ذلك. عندها قال تعالى للملكَين: انظرا، هذان عبدان من عبيدي قد آخيت بينهما ووقعا في الاختبار، فاختار عليٌّ عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طول العمر وفداه بنفسه، انزلا فاحفظاه من كلّ أذى.

هذا الموقف كشف سرّاً من أسرار عليّ عليه السلام، وهو أنّه عليه السلام في هذه السنّ المبكِّرة استطاع أن يستكمل بناء شخصيّته.

•المهاجر في وضح النهار
خرج المسلمون كلّهم من مكّة سرّاً إلّا عليّاً عليه السلام، فقد نادى قبل خروجه أسبوعاً أو أكثر: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمانة فليأتِ أُؤدِّها إليه، من كان له عنده دَيْن فليأتِ أُؤدِّه إليه. بقي ينادي هذا النداء، حتّى عرف الناس جميعاً، ثمَّ استعد وجهّز راحلته، فأَركب فيها الفواطم: فاطمة بنت محمّد عليها السلام، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير وغيرهنّ، ثمّ خرج عصراً في الوقت الذي تجتمع فيه قريش حول الكعبة، فمرَّ قرب الكعبة، وقال: يا معاشر قريش، لا تقولوا إنّ ابن أبي طالب جَبُن فخرجَ سرّاً، ها أنا ذا خارجٌ بظعينة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، من أراد أن يمنعني فليتبعني. فتبعه أبو جهل وقال: ارجع، قال عليه السلام: لا أو يرجع معكم أكثري شعراً؛ أي ترجعون رأسي معكم، فلمّا تقدّم إليه غلامٌ من غلمان أبي جهل، تناوله بطرف سيفه فأرداه، عندها أخذ يلاطفه: إنّ اليد إذا قُطعت يتألّم منها المعصم، لا تُشمت بنا قريشاً، فأجابه عليه السلام: دعك من هذا الكلام، إنّي أنفّذ ما أمرني به الله. انصرِف.

هذه المرحلة كشفت أنّ عليّاً عليه السلام رجلٌ لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يراعي حقّ قربى أو حقّ نفسه إذا كان في مراعاتها انتقاصٌ لأمر الله.

•لا أدخلها إلّا مع عليّ عليه السلام
بعدما وصل صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشارف المدينة، أقام في المكان المعروف اليوم بـ”قباء” بانتظار عليّ عليه السلام ليدخلا معاً إلى المدينة. حتّى إذا دخلاها، وأُسّست دولة الإسلام وأذِن الله للمسلمين بالقتال، بعد أن كان قد أمرهم بالصبر، ووعدهم بالنصر، فوقعت الحروب.

جميع الغزوات التي غزاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان عليٌّ عليه السلام بطلاً من أبطالها، إلّا غزوة تبوك، حيث أمّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام على المدينة. ودّعه عليٌّ عليه السلام باكياً؛ لأنّه خاف أن تضيع فرصةٌ ينال فيها الشهادة، فأسرّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه كلمات وبشّره أنّ الشهادة ستأتيه يوماً، فهدأت نفسه وصبر. كان عليه السلام إذا رجع من المعركة يرجع وجسمه كالقُرحة من كثرة الطعن والضرب، وقد بنى على جسمه عَلَقُ الدم بنياناً. وفي كثيرٍ من الأحيان، كان عليه السلام إذا برز للجهاد يلتوي السيف في كفّه مراراً؛ لأنّه كان مقداماً في ذات الله.

•لم يقاتل غضباً لنفسه أبداً
في مقابل ذلك، كان عليه السلام إذا وقع عليه ظلمٌ شخصيّ يتصرّف كأضعف الناس، يفرُّ من المواجهة، ولم يقاتل غضباً لنفسه أبداً، ولقد كشف الله ذلك عندما قاتل عمرو بن ودّ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: “برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه”، فلمّا ضرب عمراً وسقط إلى الأرض بقي الناس في حيرة، وظنّوا أنّ الذي قُتل عليّ عليه السلام، حبس الناس أنفاسهم بانتظار النتيجة، وتأخّر عليٌّ عليه السلام في إعلانها، فلمّا قتله كَبّر فكبّر المسلمون.

هنا، تساءل المسلمون لماذا لم تعلن، ولم تعجل في الإجهاز عليه؟ قال عليه السلام: لمّا هممت بذبحه شتمني، وفي بعض الروايات: بصق في وجهي، فغضبت، فخفت أن يكون في قتله شيءٌ لنفسي، فصبرت حتّى هدأ غضبي، فقتلته غضباً لله.

هذه الحادثة كشفت سرّ عليٍّ عليه السلام المكنون، أنّه فعلاً إنسانٌ باع نفسه، كلّ نفسه لله.

•صبرت وفي العين قذى
بعد أن توفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان عليٌّ عليه السلام آخر الناس عهداً به، ما فارقه قط. هو الإنسان الوحيد الذي كان أكثر الناس صحبةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عايش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منذ وُلد، وكان آخر الناس عهداً به صلى الله عليه وآله وسلم. بعد ذلك، حدث ما حدث، وأقصي عليّ عليه السلام عن منصب كان الأحقّ به، ورأى أنّ مصلحة الإسلام أن يصبر فصبر، بما عبَّر عنه: “فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذىً وفِي الْحَلْقِ شَجَىً”(1).

صَبَر عليّ عليه السلام، وكان لا يترك نصيحةً للإسلام إلّا وأسداها، ولا أمراً فيه وحدة المسلمين وعزّتهم إلّا قام به، ولو كان على حسابه. كان لا يترك موقفاً فيه حجب دم المسلمين إلّا فعله، حتى أنّه بعث بأولاده الحسن والحسين ومحمّد ابن الحنيفة، عندما قامت الثورة في عهد عثمان بن عفّان؛ ليقفوا على الباب حتّى لا يُسفك من دم المسلمين قطرة واحدة.

كان الإسلام همّه في ليله وفي نهاره، ما فكّر يوماً إلّا فيه، حتّى إذا تولّى الخلافة، وواجه خطراً يُهدّد الإسلام وجدناه يعود إلى السيف مرّةً أخرى، ويُقاتل على التأويل، وآخر عهده كان في محراب الله شهيداً. أكثر من 50 عاماً قضاها عليٌّ عليه السلام في الجهاد بأنواعه كافّة، ولا سيّما جهاد الصبر، وهو أشدّ من جهاد السيف على النفس بكثير، فمن يُقاتل بصبره أكثر جهاداً ممَّن يُقاتل بسيفه، فهذا قد يشفي غيظ نفسه بقتاله، ولكنّ ذاك يصبر “وفي العين قذىً، وفي الحلق شجىً”، كما يُعبّر أمير المؤمنين عليه السلام.

•المُنتج.. الزاهد
كان الإمام عليّ عليه السلام يعمل في حفر الآبار، وفي نزح الماء بالأجرة، وكان أحياناً يعمل بأجرة تمرة مقابل كلّ دلو، فيجمع قوته وقوت عياله، أو يتصدّق بماله أيضاً. وأحياناً كان يحفر آباراً تطوّعاً منه، فإذا نبع منها الماء جعلها وقفاً. ومن آثاره: ما تسمّى بيُنْبُع، وهي ماء حفرها فنبعت كعنق الجمل، فسمّاها عليه السلام “ينبع” وجعلها وقفاً للحجيج. وهي الآن اسم لمنطقة قريبة من المدينة المنوّرة.

كان عليه السلام مُنتجاً، وفي ذلك قال بعض المؤرّخين: لو أنّ عليّاً عليه السلام كان اقتصاديّاً في مصرفه، لكان ثريّاً؛ لأنّه كان ينتج كثيراً. ومع هذا عاش عليٌّ عليه السلام 63 عاماً لم يكن له بيتٌ يملكه، ولم يكن له خادمٌ يملكه. نعم، كان يخدمه بعض موالي أصحابه من جملتهم قنبر.

ما عُرف أنه حاجَّ أحداً في مسألةٍ شخصيةٍ قط، فعندما أصبح خليفةً للمسلمين، لم يسترجع أرض فدك وهي حقٌّ لأولاده وحقٌّ له من إرث فاطمة عليها السلام، وقال فيها مقولته المشهورة: “بَلَى، كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْه السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه”(2)، ثمّ يقول: “ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ؟! والنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِه آثَارُهَا، وتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ والْمَدَرُ، وسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِم”(3).

تولّى عليه السلام خلافة المسلمين نحو الخمس سنوات ما رؤي عليه ثوب جديد، وإنّما كان عنده ثوبٌ -وفي روايةٍ عنده ثوبان- إذا غسله كان يجلس في البيت حتّى يجفّ، وقد جاء مراراً إلى المسجد يخطب في الناس وهو يحرّك ثوبه بيده حتّى يجفّ طرفه. حتّى هو يقول عن نفسه: “والله، لقد رقعت مدرعتي حتّى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائلٌ: ألا تنبذها عنك، قلت: اعزُب عنّي”.

•اختُصّ بحبّه المؤمنون
كانت حياته كلّها لله؛ لذلك استحقّ عليه السلام أن يكون له عند الله هذا الشأن العظيم، واستحق أن يكون الفرقانَ بين المنافق والمؤمن. كان عند المسلمين الأوائل الميزان، ولقد كان حبّ عليّ عليه السلام وبغضه عليه السلام ميزاناً للعالمين، لماذا؟

يقول عليه السلام: “لو ضربت خيشوم المؤمن بالسيف على أن يبغضني ما أبغضني، ولو أتيت بالدنيا للمنافق على أن يحبّني ما أحبّني”. لقد نزع الله من قلوب المنافقين حبّ عليّ عليه السلام، وجعله شيئاً يختصّ به المؤمنون، وينالون به الكرامة في الدنيا والآخرة.

(*) من خطبة الجمعة بتاريخ 22/1/1982م.
1.نهج البلاغة، الخطبة (3).
2.(م.ن)، الكتاب (45).
3.(م.ن).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock