مقالات

أبو طالب سابق بني هاشم

دكتور أحمد راسم النفيس

المنصورة مصر

أكتوبر 2018

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة 100.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) الواقعة 11-14.

(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد 21.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). هود 101-103.

(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون 61.

يقول الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: أصل السبق التقدم في السير، نحو: {فالسابقات سبقا} [النازعات/4]، والاستباق: التسابق. قال: {إنا ذهبنا نستبق} [يوسف/17]، {واستبقا الباب} [يوسف/25]، ثم يتجوز به في غيره من التقدم، قال: {ما سبقونا إليه} [الأحقاف/11]، {وسبقت من ربك} [طه/129]، أي: نفدت وتقدمت، ويستعار السبق لإحراز الفضل والتبريز، وعلى ذلك: {والسابقون السابقون} [الواقعة/10]، أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة، نحو قوله: {ويسارعون في الخيرات} [آل عمران/114]، وكذا قوله: {وهم لها سابقون} [المؤمنون/61].

السبق إذا ليس سبقا زمانيا وحسب بل هو تقدم وعلو وارتقاء مكانة كنتيجة لما قدمه شخص ما من دور وخدمات وتضحيات من أجل الحق والعدل والدين.

لذا يقول تعالى (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). الحديد10.

الرسول الأكرم سليل المجد والشرف

إنه أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‏.‏

هكذا تسير سلسلة الاصطفاء فالله سبحانه وتعالى اختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختار محمدا من بني هاشم وبين ذلك كان هناك أعمدة ودعائم هيأها الخالق عز وجل لنصرة هذا الدين ومهد بها الأرض لتلقي الرسالة الخاتمة ومن أعظم هؤلاء قدرا كان أبو طالب بن عبد المطلب سابق بني هاشم.

والرواية لابن الأثير في (الكامل في التاريخ)[1].‏

هاشم بن عبد مناف مؤسس قريش وجد بني هاشم

كان جد رسول الله ص هو هاشم ابن عبد مناف واسمه عمرو وكنيته أبو نضلة وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه‏.‏

قال ابن الكلبي‏:‏ كان هاشم أكبر ولد عبد مناف والمطلب أصغرهم أمه عاتكة بنت مرة السلمية ونوفل وأمه واقدة وعبد شمس فسادوا كلهم وكان يقال لهم المجبرون‏.‏

وهم أول من أخذ لقريش العصم فانتشروا من الحرم فأخذ لهم هاشم خيلا من الروم وغسان بالشام وأخذ لهم عبد شمس خيلًا من النجاشي بالحبشة وأخذ لهم نوفل خيلًا من الأكاسرة بالعراق وأخذ لهم المطلب خيلًا من حمير باليمن فاختلفت قريش بهذا السبب إلى هذه النواحي فجبر الله بهم قريشًا‏.‏

وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة فحسده أمية بن عبد شمس على رياسته وإطعامه فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وجلال قدره فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشر سنين فرضي أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جد عمرو بن الحمق[2] فقضى لهاشم بالغلبة وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية‏.‏

وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما‏.‏

ومات هاشم بغزة وله خمس وعشرون سنة وهو أول من مات من بني عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد‏.‏

وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب لصغر سن ابنه عبد المطلب بن هاشم‏.‏

أما اليعقوبي فيذكر في تاريخه ما أعرض أغلب المؤرخين عن نقله وإيراده من سيرة هاشم بن عبد مناف حيث يقول:

فولد عبد مناف بن قصي هاشما، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشما، لانه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشا.

وشرف هاشم بعد أبيه، وجل أمره، واصطلحت قريش على أن يولى هاشم بن عبد مناف الرئاسة والسقاية والرفادة، فكان إذا حضر الحج قام في قريش خطيبا، فقال: يا معشر قريش! (إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وانه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم أضياف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خيركم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أعيوا وتفلوا، وقملوا، وارملوا، فاقروهم، واغنوهم!).

فكانت قريش ترافد على ذلك. وكان هاشم يخرج مالا كثيرا، ويأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجمع، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه، حتى يتفرق الناس إلى بلادهم، فسمي هاشما.

وكان أول من سن الرحلتين: رحلة الشتاء إلى الشأم ورحلة الصيف إلى الحبشة إلى النجاشي، وذلك ان تجارة قريش لا تعدو مكة، فكانوا في ضيق، حتى ركب هاشم إلى الشأم، فنزل بقيصر الروم، فكان يذبح في كل يوم شاة، ويضع جفنة بين يديه، ويدعو من حواليه. وكان من أحسن الناس وأجملهم، فذكر لقيصر، فأرسل إليه، فلما رآه، وسمع كلامه، أعجبه، وجعل يرسل إليه، فقال هاشم: أيها الملك إن لي قوما، وهم تجار العرب، فتكتب لهم كتابا يؤمنهم ويؤمن تجاراتهم، حتى يأتوا بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، ففعل قيصر ذلك، وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الايلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم، فأخذوا الايلاف من مكة والشام.

قال الاسود بن شعر الكلبي: كنت عسيفا لعقيلة من عقائل الحي اركب الصعبة والذلول، لا اليق مطرحا من البلاد أرتجي فيه ربحا من الاموال، ودهم الموسم فدفعت إليها مسدفا، فحبست الركاب، حتى انجلى عني قميص الليل، فإذا قباب سامية مضروبة من أدم الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق وإكلة وجبنة على الظهار.. ألا عجلوا! فبهرني ما رأيت، فتقدمت أريد عميدهم، وعرف رجل شأني، فقال: أمامك! فدنوت، فإذا رجل على عرش سام تحته نمرقة قد كار عمامة سوداء، وأخرج من ملاثمها جمة فينانة، كأن الشعرى تطلع من جبينه، وفي يده مخصرة، وحوله مشيخة جلة منكسو الاذقان، ما منهم أحد يفيض بكلمة، ودونهم خدم مشمرون إلى انصاف، وإذا برجل مجهر على نشز من الارض ينادي: يا وفد الله، هلموا الغداء! وانسيان على طريق من طعم يناديان: يا وفد الله! من تغدى فليرجع إلى العشاء!.

وقد كان نمي إلي من حبر من أحبار اليهود: ان النبي الامي هذا أوان توكفه، فقلت لأعرف ما عنده، يا نبي الله! فقال: مه، فقلت لرجل كان إلى جانبي: من هذا؟ فقال: أبو نضلة هاشم بن عبذ مناف، فخرجت، وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة، ومر مطرود بن كعب الخزاعي برجل مجاور في بني هاشم، وبنات له وامرأة في سنة شديدة، فخرج يحمل متاعه ورحله هو وولده وامرأته لا يؤويه أحد، فقال مطرود الخزاعي:

يا أيها الرجل المحول رحله ! * هلا نزلت بآل عبد مناف ؟

هبلتك أمك لو حللت بدارهم، * ضمنوك من جوع ومن اقراف

عمرو العلى هشم الثريد لقومه، * ورجال مكة مسنتون عجاف

نسبوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الاصياف

الآخذون العهد في آفاقها، * والراحلون لرحلة الايلاف

وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشأم، فجعل يمر بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات، ولا يلزمهم لها مؤونة، حتى صار إلى غزة، فتوفي بها. وقام بأمر مكة المطلب بن عبد مناف. وكان لهاشم من الولد عبد المطلب، والشفاء، وأمهما سلمى بنت عمرو ابن زيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسم النجار تيم الله ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ونضلة بن هاشم وأمه أميمة بنت عدي بن عبد الله، وأسد أبو فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وأمه قيلة بنت عامر ابن مالك بن المطلب، وأبو صيفي انقرض نسله، إلا من رقيقة بنت أبي صيفي، وصيفي درج صغيرا، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الخزرج، وضعيفة، وخالدة، وأمهما واقدة بنت أبي عدي، وحنة بنت هاشم، وأمها أم عدي بنت حبيب بن الحارث الثقفية.

هاشم والإيلاف

يقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) سورة قريش 1-4.

يزعم بعض المفسرين أن هذه السورة المباركة تأتي استكمالا للسورة التي سبقتها وهي سورة الفيل والهدف من هذا الربط هو الزعم أن الإيلاف والتآلف الذي أنعم الله به على قريش هو بسبب انكسار هجوم الحبشة على مكة محاولة منهم لهدم الكعبة بيت الله الحرام.

التاريخ الذي نقلناه اليعقوبي يجعل من الإيلاف وهو حالة الأمن الداخلي والخارجي الذي تنعمت به قريش سابقا على واقعة الفيل فالإيلاف تأسس على يد هاشم بن عبد مناف أما واقعة الفيل فكان بطلها عبد المطلب بن هاشم كما هو معلوم.

ما الذي دفع ملك الحبشة لشن عدوانه على مكة محاولا هدم بيت الله إلا تصاعد مكانتها خلال تلك الفترة التي تقارب أربعين عاما وما كان هذا الصعود ليحدث لولا حالة الاستقرار والأمن التي نعمت بها مكة المطهرة على يد هاشم بن عبد مناف والذي تحققت على يديه دعوة جده إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[3].

يتغافل مؤرخو السوء عن هذه الوقائع ويتغافلون أيضا عن حقيقة أن قريشا لم يكن لها وجود كقبيلة ومدينة قبل قصي بن عبد مناف.

لم يكن لقريش وجود فعلي قبل قصي وهو ما يؤكده جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام):

قصيّ رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة بيد قريش ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها ب “آل قصي”، فكان أحدهم اذا استغاث أو استنجد باحد، صاح: “يا لقَصي،”، كناية عن انهم “آل قصيّ”. جامع قريش.

وهو أول رئيس من رؤساء مكة. يمكن إن نقول إن حديثنا عنه، هو حديث عن شخص عاش حقاً وعمل عملاّ في هذه المدينة التي صارت قبلة ملايين البشر فيما بعد. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئاً من برد ولا حرّ، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجرة الحرم، وذات سقوف.[4]

كانت قريش تعاني من الجوع والعطش وانعدام الرحمة والتكافل بين أهلها حتى أن بعضهم كان يؤثر الموت جوعا ولا يسأل الناس أن يطعمه والرواية لجواد علي في الكتاب المذكور آنفا:

وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق على المحتاجين والمساكين وكان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه فيقول: “أنطعم من لو شاء الله أطعمه ” فنزلت هذه الآية: (ولا يحض على طعام المسكين)، “وتوجه الذم اليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا.

وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئاً. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرماً وتعففاً، فلم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه، مفضلاً الجوع على الشبع بالاستجداء.

حتى ذكر ان منهم من كان يختار الموت على الدنيةّ. والدنيّة، أن يذهب إلى رجل فيتوسل اليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من كان يغلق بابه على نفسه، فلا يسأل أحداٌ حتى يموت جوعاً. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم باباً وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعاً.

وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرجوا إلى اليبدية سراً، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعاً. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، واشفاقاً على أنفسهم من التوسل بالاغنياء لمساعدتهم. فالموت على هذه الصورة أسهل عندهم من الإستجداء.

روي “عن ابن عباس” في تفسيره “لإيلاف قريش” قوله: “وذلك أن قريشاً كانوا إذا أصابت واحداً منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا”.

وكان أن نادى “هاشم” وهو “عمرو بن عبد مناف” بإنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبا ليكون للفقراء. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة.

وذكر في تعليل دعوة “هاشم” إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، انه “كان سيداً في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غداً نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه.. فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياماً. ثم إن تربه أتاه أيضاً، فقال: نحن غداَ نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيباً في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: انكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل – يعني أبا ترب أسد – فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم انه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسميّ هاشماً. وفيه قال الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيهّـم حتى يصير فقيرهم كالكافي[5].

أهال (المؤرخون الأمويون) التراب على التحول الهائل الذي أحدثه هاشم بن عبد مناف لم يكن حدثا خارجا عن السياق الآتي وهو عمل تأسيسي كبير سبق النبوة المحمدية التي غيرت وجه الكون كله وسطع نورها ولا زال يسطع في أرجاء العالم تأسيسا قاعدة ارتكاز استند إليها الإسلام في انطلاقته نحو الجزيرة العربية أولا وبعدها سائر العالم.

الولاية على المسجد الحرام حق طبيعي للدوحة الهاشمية وهو ما يفسر لنا اشتباك رسول الله مع قريش ابتداء من معركة بدر وما تلاها[6].

عبد المطلب بن هاشم:

إنه جد رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشمًا شخص في تجارة إلى الشام فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها‏.‏

وشرط أبوها أن لا تلد ولدًا إلا في أهلها ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة‏ فولدت له عبد المطلب فمكث بالمدينة سبع سنين‏ ثم إن رجلًا من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون فجعل شيبة (عبد المطلب) إذا أصاب قال‏:‏ أنا ابن هاشم أنا ابن سيد البطحاء‏‏.‏

فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب وهو بالحجر‏:‏ يا أبا الحارث تعلم أني وجدت غلمانًا بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله‏ فقال المطلب‏ لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به‏ فقدم المدينة عشاء فأخذه بإذن أمه وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له‏:‏ من هذا وراءك فيقول‏:‏ هذا عبدي‏.‏ حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم‏.‏ فقالت‏:‏ من هذا الذي معك قال‏:‏ عبد لي‏.‏

واشترى له حلةً فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال‏:‏ هذا عبد المطلب لقوله هذا عبدي‏ ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه‏.‏

فعرض له نوفل بن عبد مناف وهو عمه الآخر بعد موت المطلب فأخذ دارا له فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف فدعا بشر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالًا من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتابًا‏.‏ وكانت له السقاية والرفادة وشرف في قومه وعظم شأنه‏ ثم إنه حفر زمزم وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام التي أسقاه الله وكان سبب حفره إياها أنه قال‏:‏ بينا أنا نائم بالحجر إذ أتاني آتٍ فقال‏:‏ احفر طيبة‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ وما طيبة؟ قال‏:‏ ثم ذهب فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال‏:‏ احفر بَرة‏ قلت‏:‏ وما بَرة؟ قال‏:‏ ثم ذهب عني‏ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال‏:‏ احفر المضنونة‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ وما المضنونة؟ قال‏:‏ فذهب عني‏ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال‏:‏ احفر زمزم إنك إن حفرتها لا تندم‏ فقلت‏:‏ وما زمزم قال تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدًا ولا تذم, تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم, ينذر فيها ناذر لمنعم, يكون ميراثًا وعقدًا محكم, ليس كبعض ما قد تعلم, وهي بين الفرث والدم, عند نقرة الغراب الأعصم, عند قرية النمل‏.‏

فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق, غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها وقد رأى الغراب ينقر هناك‏.‏

كما يذكر جواد علي في كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام): أن هاشما أوصى إلى أخيه “المطلب”، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة.

وهم يروون أن عبد المطلب كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وانه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من تحنث بغار حراء. والتحنث التعبد الليالي ذوات للعدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس، ليتفكر في جلال الله وعظمته. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر للطواف بالبيت.

وذكر انه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور. وكان يقول” لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وان وراء هذه الدار، داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ورفض عبادة الأصنام، ووحَّد الله. وروي” انه وضع سنناً جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها. منها” الوفاء بالنذر، وتحريم الخمر والزنا، وان لا يطوف بالبيتُ عُريان. وذكر انه كان أول من سنّ دية النفس مئة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرا من الإبل، فجرت في قريش والعرب مئة من الإبل. وأقرها رسول الله على ما كانت عليه.

ويذكرون إن قريشاً كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِير، تستسقي المطرْ.

ومن أهم أعمال “عبد المطلب” الخالدة إلى اليوم “بئر زمزم” في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون إنها بئر إسماعيل، وان جرهماً دفنتها، وإنها تقع بين أساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها “عبد المطلب”، أقبل عليها الحجّاج وتركوا سائر الآبار.

ويذكر أهل الأخبار إن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية، وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب فكان أول ذهبُ حلِّيته الكعبة. وجعل الغزال الأخر في الجبّ الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر إن قريشاً أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على إن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء، وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه انه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها.

وقد طغى ماء “بئر زمزم، على مياه آبار مكة الأخرى. فهو أولاً ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكر كمية من مياه الآبار الأخرى، وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه، ثم انه ألطف مذاقاً من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد “عبد المطلب” من هذه البئر، مادياً وأدبياً، وصارت ملكاً خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر، لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج.[7]

بين عبد المطلب وأبرهة

يروي ابن الأثير في الكامل: أنّ الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار الملك إِلى أبرهة بنى كنيسة عظيمة وقصد أن يصرف حج العرب إِليها ويبطل الكعبة الحرام فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة فغضب أبرهة لذلك وسار بجيشه ومعه الفيل وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلاً ليهدم الكعبة فلما وصل إِلى الطائف بعث الأسود بن مقصود إِلى مكة فساق أموال أهلها وأحضرها إِلى أبرهة وأرسل أبرهة إِلى قريش وقال لهم‏:‏ لست أقصد الحرب بل جئت لأهدم الكعبة فقال عبد المطلب‏:‏ والله ما نريد حربه هذا بيت الله فإِن منع عنه فهو بيته وحرمه وإن خلا بينه وبينه فوالله ما عندنا من دفع ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة‏:‏ هذا سيد قريش فأذن له وأكرمه ونزل عن سريره وجلس معه وسأله في حاجته فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة‏:‏ إِني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك‏:‏ فقال عبد المطلب‏:‏ أنا رب الأباعر فأطلبها وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه فأخذها عبد المطلب وانصرف إِلى قريش ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها بقي كلما أقبل فيله مكة وكان اسم الفيل محموداً ينام ويرمي بنفسه إِلى الأرض ولم يسر فإِذا وجهوه إلى غير مكة قام يهرول وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس فلم يصب أحداً منهم إلا هلك[8]‏.

كما روي الكليني في الكافي ج1 ص447 نفس الرواية بشيء من التفصيل عن أبي عبد الله عليه السلام (الصادق ع) قال:

لما أن وجه صاحب الحبشة بالخيل ومعهم الفيل ليهدم البيت مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها فبلغ ذلك عبد المطلب فأتى صاحب الحبشة فدخل الآذن فقال: هذا عبد المطلب بن هاشم قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها يسألك ردها فقال ملك الحبشة لأصحابه هذا رئيس القوم وزعيمهم جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت ردوا عليه إبله فقال عبد المطلب لترجمانه ما قال لك الملك؟ فأخبره فقال عبد المطلب أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه فردت إليه إبله وانصرف عبد المطلب نحو منزله فمر بالفيل في منصرفه فقال للفيل: يا محمود فحرك الفيل رأسه فقال له أتدري لم جاءوا بك؟ فقال الفيل برأسه لا فقال عبد المطلب جاءوا بك لتهدم بيت ربك أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه لا!!.

فانصرف عبد المطلب إلى منزله فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم فأبى وامتنع عليهم فقال عبد المطلب لبعض مواليه عند ذلك: اعل الجبل فانظر ترى شيئا؟ فقال: أرى سوادا من قبل البحر فقال له يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له لا ولأوشك أن يصيب فلما أن قرب قال هو طير كثير ولا أعرفه يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الخذف أو دون حصاة الخذف فقال عبد المطلب ورب عبد المطلب ما تريد إلا القوم حتى لما صاروا فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة فوقعت كل حصاة على هامة رجل فخرجت من دبره فقتلته فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته.

عبد الله بن عبد المطلب

وكان عبد الله أصغر ولد أبيه فكان هو عبد الله وشقيقه أبو طالب واسمه عبد مناف والزبير وعبد الكعبة عاتكة وأميمة وبرة ولد عبد المطلب أمهم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة‏.‏

وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى‏ فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا‏:‏ كيف نصنع قال‏:‏ يأخذ كل رجل منكم قدحًا ثم يكتب فيه اسمه‏.‏

تزويج عبد الله من آمنة بنت وهب

وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بابنه عبد الله حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو سيد بني زهرة فزوجه ابنته آمنة بنت وهب.‏

فدخل عبد الله عليها فحملت بمحمد صلى الله عليه.

موت والد الرسول عبد الله بن عبد المطلب:

أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرًا فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولذا فنحن لا نرى غرابة ولا عجبا فيما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك) فمثل هذا الموقف الذي وقفه عبد المطلب من عدو الله أبرهة خليق أن يرفعه إلى هذه المنزلة وما ذلك على الله بعزيز.

كما يروي أيضا ج1 ص447 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فقال:

يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. وفي رواية ابن فضال وفاطمة بنت أسد.

وعنه أيضا قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك.

أبو طالب عليه السلام ودوره في التأسيس للإسلام

لماذا يصر القوم على إثبات كفر أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وكافله والمدافع عنه وعن الإسلام والذي لولا تضحيته وجهاده ما رفعت للإسلام راية وما قامت له قائمة.

المسألة من وجهة نظرنا أبعد بكثير من كونها دفاعا عن شخصية فذة لعبت الدور الأكبر بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله في إيصال كلمة التوحيد إلى الدنيا بأسرها بل هو موقف يتعين علينا وقوفه في مواجهة اغتيال العقل والضمير الإسلامي الذي نشأ وتربى على تلك الأكاذيب التي تهدف إلى تشكيل عقل وضمير هجين أشبه ما يكون بقطعة العجين التي يمكن تشكيلها وفقا لرغبة وأهواء الإعلام الأموي المتسلط على عقول المسلمين من يومها إلى يومنا هذا ولكن أبدا ليس إلى يوم الدين.

عقل وضمير لا يختلف كثيرا عن ضمير بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها فأصبحوا هم وحميرهم سواء بسواء.

المهم في الأمر أن العقل الإسلامي ولكي يتقبل فكرة أن الكل قد تساووا بمجرد النطق بالشهادتين كان من المتعين على آلة الإعلام الأموي أن تحذف تاريخ بني هاشم قبل النبوة ليبدأ الكلام من نقطة (الاستواء في الإسلام) وهذا مضمون رد الإمام علي عليه السلام على ابن هند (وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَلَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَلَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَلَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَلَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَلَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَلَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ).

لهذا السبب اخترنا أن نبدأ الحديث عن أبي طالب (مؤمن قريش) من النقطة التي ابتدأنا منها وليس من نقطة تفنيد الادعاء الفارغ عن موته رضوان الله عليه كافرا كما يزعم الجهلاء ومن في قلبهم مرض النفاق.

تخيل أن رواية واحدة يرويها البخاري عن نزول الوحي أو عن موت أبي طالب رضوان الله عليه تحولت لتصبح مسلمة تاريخية بديهية لا تقل قوة عن مسلمة طلوع الشمس من المشرق وغروبها في المغرب بل وأصبحت عقيدة دينية من ثوابت الأمة الإسلامية ويعد التشكيك فيها جريمة تمس أمن الدولة!!.

رواية الإعلام السفياني

يقول ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ توفي أبو طالب للنصف من شوال في السنة العاشرة للنبوة وهو ابن بضع وثمانين سنة[9]‏.‏

ولما مرض أبو طالب دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام‏ حيث يروي ابن الجوزي في المنتظم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده عبد الله بن أبي أمية وأبا جهل بن هشام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏ يا عم قل‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللّهُ كَلِمَة أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّه‏”‏‏ فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطّلب‏ قال‏:‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويقول‏:‏ ‏”‏ يَا عَم قُلْ‏:‏ لا إِلَهَ إلا اللّه أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله‏‏ ‏”‏ويقولان له‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب حتى قال آخر كلمة تكلّم بها‏:‏ أنا على ملة عبد المطلب‏ ثم مات‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأسْتَغْفِرَن لَكَ مَا لَمْ أنْهَ عنك ‏”‏‏ فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حتى نزلت هذه الآية:‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ التوبة (113- 114) ‏‏.‏

الروايات التي تحدثت عن موت أبي طالب عليه رضوان الله فيها ما الكثير من الخلل والاضطراب ويكفي أن يكون الراوي مجهولا فهو تارة (سعيد بن المسيب عن أبيه) وتارة أخرى أبي هريرة الذي أسلم يوم فتح خيبر بعد هذه الواقعة بزمان, إلا أن الأخطر من كل هذا أن (المؤلف) الذي التقط الآية وركب عليها حديثا عن رسول الله وإن شئت أن تكون أكثر دقة قلت (على) رسول الله, فاته أن المسلمين وإن اختلفوا حول (كفر أبي طالب) من عدمه لم يختلفوا على أنه كان الناصر الأول لرسول الله ولدين الله فكيف يمكننا أن نصدق أن رسول الله تبين له بعد كل هذا الزمان أنه (عدو لله) فتبرأ منه؟؟!!!.

ولو افترضنا جدلا أنه قال على (ملة عبد المطلب) فملته رضوان الله عليه كانت ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.

ما هو وجه المقارنة بين أبي إبراهيم وأبي طالب عليه رضوان الله ورحمته؟؟.

التاريخ المتواتر والمؤكد الذي رواه الجميع يثبت دور أبي طالب البطولي في الذب عن رسول الله وعن دعوته عكس ما فعله أبو إبراهيم وهو ما ذكره القرآن في سورة مريم:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا مريم) (41-48)

أي أن أبا إبراهيم قام بطرده ولم يؤازره ولم ينصره بل وهدده بالرجم والقتل ومع ذلك قال له إبراهيم ع سأستغفر لك ربي فهل كان هذا هو موقف أبي طالب رضوان الله عليه؟؟.

الجواب معلوم.. فقد كان أبو إبراهيم عدوا لله وكان أبو طالب ناصرا لأولياء الله ولرسول الله فما هو وجه المقارنة أو المقاربة بين الحالين؟؟.

بعض المواقف الرسالية الصلبة لأبي طالب.

خطبة أبي طالب في تزويج محمد من خديجة:

ألم يكن ابن الجوزي نفسه هو من روى خطبة أبي طالب في تزويج محمد صلى الله عليه وآله من خديجة بنت خويلد التي قال فيها:‏ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مُضر وجعلنا حضنة بيته وسوَاس حرمه وجعل لنا بيتًا محجوبًا وحرمًا آمنًا وجعلنا الحكام على الناس‏, ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلا رجح به وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمرٌ حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل‏.‏

فما هو يا ترى هذا الشأن الخطير الذي كان أبو طالب يعرفه ويتوقعه بل وينتظره؟؟ أليس هو النبوة؟!.

مواقف أبي طالب دفاعا عن الإسلام
يروي ابن هشام في سيرته نقلا عن ابن إسحاق :‏‏

فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء‏.‏‏

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب‏ فقالوا ‏‏ يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه‏.‏‏

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذمروا منه وحض بعضهم بعضا عليه‏.‏‏

ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له‏:‏‏ يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنـزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ‏ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.‏‏

وذكر ابن إسحاق‏ أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:‏‏ يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا للذي كانوا قالوا له فأبقِ علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق‏ فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه أن يخذله ويسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ‏‏فقال‏:‏‏ فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ‏ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فقال‏:‏‏ اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا‏.‏‏

قال ابن إسحاق:‏‏ ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له:‏‏ يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله, فإنما هو رجل برجل فقال ‏‏والله لبئس ما تسومونني!‏‏ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه‏!‏‏ هذا والله ما لا يكون أبدا.‏‏

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي‏‏:‏‏ و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال أبو طالب للمطعم ‏‏ والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك فحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضا ‏بالعداء‏.‏‏

شعر أبي طالب في التعريض بمن خذله من عبد مناف

فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي ويُعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش‏:‏‏

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكْرُ

من الخور حبحاب كثير رُغاؤه * يُرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الوِرْد ليس بلاحق * إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تجرجرتما * كما جُرجرت من رأس ذي علق الصخر

أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمر

هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صِفْرُ

هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يُرس له ذكر

قال ابن إسحاق‏:‏‏ ثم إن قريشا تآمروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون ‏‏.‏‏

شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته

فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ومكانه منهم ليشد أزرهم وليحدبوا معه على أمره فقال‏:‏‏

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديما لا نقر ظُلامة إذا * ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها

فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال‏:‏‏

ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ * وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنّة * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل

أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو مُلحّ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول

وإنا لعمر الله إنْ جدَّ ما أرى * لَتلتبسنْ أسيافنا بالأماثل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهُلاّك من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل‏

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل

وسهم ومخزوم تمالوا وألَّبوا * علينا العدا من كل طمل وخامل

فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل

فأبلغ قصيا أن سيُنشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل

ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل

شباب من المطيِّبين وهاشم * كبيض السيوف بين أيدي الصياقل

ولكننا نسل كرام لسادة * بهم نُعي الأقوام عند البواطل

ونعم ابن أخت القوم غير مكذَّب * زهير حساما مفردا من حمائل

أشمُّ من الشم البهاليل ينتمي * إلى حسب في حومة المجد فاضل

لعمري لقد كُلِّفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وزينا لمن والاه رب المشاكل

فمن مثله في الناس أي مُؤمَّل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حليم رشيد عادل غير طائش * يوالي إلاها ليس عنه بغافل

فوالله لولا أن أجيء بسنة * تجُر على أشياخنا في المحافل

لكنا اتبعناه على كل حالة * من الدهر جِدّا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذَّب * لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل ‏

فأصبح فينا أحمد في أرومة * تُقصِّر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيده ربُّ العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل

رجال كرام غير مِيل نماهم * إلى الخير آباء كرام المحاصل

فإن تك كعب من لؤي صُقيبة * فلا بد يوما مرة من تزايل

قال ابن هشام وحدثني من أثق به قال‏:‏‏ أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا ذلك إليه فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فاستسقى فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة فصار حوليها كالإكليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏ لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره فقال له بعض أصحابه‏:‏‏ كأنك يا رسول الله أردت قوله‏:‏‏

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال ‏‏:‏‏ أجل ‏‏.‏‏

مبعوثو قريش إلى النجاشي
قال ابن إسحاق‏:‏‏ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما إليه فيهم ‏.‏‏

فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتا للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم‏:‏‏

شعره المرسل للنجاشي

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر * وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

تعلم، أبيت اللعن، أنك ماجد * كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب

وأنك فيض ذو سجال * غزيرة ينال الأعادي نفعها والأقارب

موقف أبي طالب من المقاطعة الظالمة:

قال ابن إسحاق‏:‏‏ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة بن عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ويقال:‏‏ النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلّ بعض أصابعه‏.‏‏

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم و بنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من ‏بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم‏.‏‏

فلما اجتمعت على ذلك قريش‏ قال أبو طالب ‏‏:‏‏

ألا أبلغا عني على ذات بيننا * لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خُط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب

وأن الذي ألصقتمُ من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغيه السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمرّ على من ذاقه جلب الحرب

فلسنا ورب البيت نُسلم أحمدا * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تبنْ منا ومنكم سوالف * وأيد أُترّت بالقُساسية الشهب

بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطُخم يعكفن كالشَّرب

كأن مجُال الخيل في حَجَراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جُهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش ‏‏.‏‏

أبو طالب يجير أبا سلمة بن عبد الأسد

قال ابن إسحاق أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له‏:‏‏ يا أبا طالب: لقد منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟‏‏ قال ‏إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون تتوثَّبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد,‏ فقالوا‏ بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك‏ فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وإن امرأ أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما إن يُسام المظالما

أقول له ، وأين منه نصيحتي * أبا معتب ثبتْ سوادك قائما

ولا تقبلنّ الدهر ما عشت خطة * تُسبّ بها إما هبطت المواسما

وولّ سبيل العجز غيرك منهمُ * فإنك لم تخُلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نُصْف ولن ترى * أخا الحرب يُعطى الخسف حتى يُسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما ‏

كذبتم وبيت الله نُبزى محمدا *ولما تروا يوما لدى الشعب قائما

إخباره عليه الصلاة والسلام بأكل الأرضة الصحيفة

قال ابن هشام ‏ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب‏:‏‏ يا عم إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما لله إلا أثبتته فيها ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان فقال‏:‏‏ أربك أخبرك بهذا‏؟‏‏ قال‏‏ نعم ثم خرج إلى قريش فقال‏:‏‏ يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا ، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي فقال القوم‏:‏‏ رضينا ، فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما ‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا‏‏.‏‏ فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا‏‏.‏‏

فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم‏:‏‏

ألا هل أتى بحينا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرودُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأنْ كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يُلف سحر آخر الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقر * فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء رقعة بأثيمة * ليُقطع منها ساعد ومقلَّد

ويظعن أهل المكتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر ترعد

ويُترك حرّاث يقلب أمره * أيُتهم فيهم عند ذاك ويُنجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومِرهد

فمن يَنْشَ من حضّار مكة عزه * فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفك نزداد خيرا ونحمد

ونُطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين تُرعد

قال ابن إسحاق ‏‏ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا ‏في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بموت خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها وبموت عمه أبي طالب وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين‏.‏‏

فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا‏ فلما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته (فاطمة الزهراء عليها السلام) فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها‏:‏‏ لا تبكي يا بُنيِّة فإن الله مانع أباك‏‏‏ و كان يقول بين ذلك‏:‏‏ ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب‏.‏‏

متى كان القطع بأمر إيمان أبي طالب من عدمه متوقفا على رواية البخاري أو غيره؟؟.

لو أننا رجعنا لكلماته النورانية التي قالها شعرا في نصر رسول الإسلام والتي ذكرناها سابقا سنرى بوضوح أن موقفه المناصر لرسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد انطلق من إيمان راسخ بنبوة ابن أخيه وفلذة كبده ومهجة روحه محمد بن عبد الله.

فمتى كان القائل (وأظهر دينا حقه غير باطل.. ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب) كافرا؟؟.

هلا أجابنا القوم؟؟.

ومتى كان القائل (لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وإخوته دأب المحب المواصل.. حليم رشيد عادل غير طائش, يوالي إلها ليس عنه بغافل, فأيده رب العباد بنصره.. وأظهر دينا حقه غير باطل) مجرد شخص قبلي يحامي عن شرف القبيلة ولما حضرته الوفاة رفض أن يتلفظ بالشهادتين وقال أموت على دين عبد المطلب خشية أن تغضب قريش؟؟!!.

أي منطق يدفعنا لتصديق أن أبا طالب رضوان الله عليه كان حريصا على ألا يغضب قريشا بإعلان إسلامه في لحظة موته وإلا فليخبرنا هؤلاء الفلاسفة عما كان يعنيه نصرة محمد صلى الله عليه وآله في مواجهة الطغيان القرشي طيلة هذه السنين؟؟.

هل كان هذا إرضاء لقريش؟؟ أم أنه رضوان الله عليه كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم ولا عذل عاذل ولا يسعون إلا لنيل رضا خالقهم سبحانه وتعالى عما يشركون!!.

ألا يستحي القوم من تكرار هذا الكلام الذي يقطع بأن حقدهم على ناصر رسول الله مشتق من نفاقهم وحسدهم لشخص رسول الله وهو الحقد الذي امتد في أعقابهم وهو نفسه الذي حفزهم بعد ذلك للتنكيل بآل الرسول الأكرم فكانت هذه من تلك وتلك من هذه!!.

دكتور أحمد راسم النفيس

‏24‏/10‏/2018مـ

‏الأربعاء‏، 14‏ صفر‏، 1440هـ

هاتف نقال 00201223913029

منزل 0020502244839

[1] (الكامل في التاريخ) ابن الأثير ج1 ص 544 – 568 طبعة دار الكتب العلمية 1987.‏

[2] الصحابي الجليل الذي قتله معاوية بن أبي سفيان طعنا بمشقص أي بمقص.

[3] البقرة 125-126.

[4] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. دكتور جواد علي ص 22. ج 4 طبعة الشريف الرضي.

[5] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. د جواد علي ج 5 ص 81-83 طبعة الشريف الرضي.

[6] انظر كتابنا التاريخ السياسي للرسول الأمرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

[7] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. د جواد علي ص 73-77. ج4 طبعة الشريف الرضي

[8] الكامل في التاريخ لابن الأثير ج1 ص 342-345

[9] المنتظم, ج3 ص 8-10

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock