أنواع الادّخار

يمكن تقسيم التوفير حسب أهدافه العقلائيّة والشرعيّة
البشريّة المتطوّرة والأسر الناجحة, للمسنا أهمّيّة التوفير، ومدى تأثيره الإيجابيّ عليها. أمّا النصوص الدينيّة فهي بدورها تطرّقت إلى أهمّيّة هذا الأمر، حيث سنشير إلى بعضها في الأبحاث التالية:
1- أهمّيّة الادّخار:
إنّ روح الانسجام والتعاون بين أعضاء الأسرة والمجتمع من أهمّ العوامل التي تساعد على تنامي الرغبة في التوفير لديهم. فعندما تسود هذه الروحيّة بينهم، ويتولّى زمام أمورهم وليّ أمرٍ مدبّرٍ, فسوف
يتسنّى لهم الادّخار، ولكن لو فُقد الانسجام والتعاون بينهم وبين إدارتهم، أو أنّهم تمرّدوا على أوامر ولي أمرهم, فسوف لا يتمكّنون من ادّخار أموالهم، وسيواجهون مصاعب في إدارة أمورهم.
إذن، لو سلك أعضاء الأسرة أو المجتمع نهج الإسراف والتبذير, فسوف لا يمكنهم ادّخار ما يلبّي متطلّباتهم عند الحاجة، حتّى وإن كان وليّ أمرهم مدبّراً وقانعاً. فإذا تمكّن
الناس من ادّخار أموالهم وتسخيرها في النشاطات الإنتاجيّة, فسوف تتهيّأ الأرضيّة اللازمة للرقيّ الاقتصاديّ، وتتوافر فُرص العمل، ويرتفع المستوى المعيشيّ للناس. كما أنّ الادّخار بذاته يُعدّ سبباً للحيلولة دون الإسراف والتبذير. وكلّما زادت قدرة الناس على الادّخار, فسوف يبتعدون عن طبيعة الاستهلاك المُفرِط إلى حدٍّ كبيرٍ.
ومصادرنا الدينيّة حافلةٌ بنصوصٍ تؤكّد على أهمّيّة الادّخار، منها: ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام :”إنَّ الإنسانَ إذا أدخل (ادّخر) طَعامَ سَنَةٍ, خَفَّ ظَهرُهُ وَاستَراحَ. وَكانَ أبو جَعفر وَأبو عَبدِ اللهِ عليهما السلام لا يَشتَريانِ عُقدَةً, حَتَّى يُحرِزا طَعامَ سَنَتِهِما”148.
فلو انتهج الإنسان هذا الأسلوب في المعيشة, سينعم براحة البال، ويستقرّ نفسيّاً. وبالطبع، فإنّ راحة بال أيّ إنسان لها تأثيرٌ كبيرٌ على نشاطاته, فهي تعتبر أساساً لتطوّره الفكريّ، ووازعاً لعطائه العمليّ، كما أنّها من أسباب تكامل شخصيّة الإنسان وسموّ المجتمع، وتعدّ ـ أيضاً ـ من دواعي امتثال أعضاء الأسرة لأداء مسؤوليّاتهم.
إذن، لا ريب في أنّ التوفير سيزرع روح الطمأنينة بين جميع أعضاء الأسرة والمجتمع، ولا يُبقي مجالاً للقلق والاضطراب
148- الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب إحراز القوت، ح1، ص89.
بشأن المستقبل في أذهانهم. فوليّ أمر كهذه أسرةٍ أو مجتمعٍ كهذا, سيكون محترماً ومستّقلاً، حيث لا يضطرّ لأن يمدّ يده إلى الآخرين, طلباً للمعونة، وفي الوقت نفسه سوف لا يُجبر على مخالفة الأصول الأخلاقيّة والمعايير الدينيّة.
لذا، فإنّ تأكيد الإمام الرضا عليه السلام على ضرورة توفير متطلّبات الحياة لمدّة عامٍ, هو مثالٌ على الادّخار الممدوح الذي سنتطرّق إلى ذكره لاحقاً, وهو في الحقيقة تأكيدٌ على أهمّيّة الادّخار بشكلٍ عامٍّ149.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الادّخار ليس دائماً, بمعنى: توفير الأموال في الحياة الدنيويّة، فهناكٌ ادّخارٌ معنويٌّ – أيضاً – أكّدت عليه النصوص الدينيّة, وفيه بركاتٌ عظيمةٌ لا تفنى، وتفوق بركات الادّخار المادّيّ. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :”إذا ماتَ المؤمِنُ انقَطَعَ عَمَلُهُ، إلا مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جاريَةٌ، أو عِلمٌ يُنتَفَعُ بهِ، أو وَلَدٌ صالِحٌ يَدعُو لَهُ”150.
2- أنواع الادّخار:
يمكن تقسيم التوفير حسب أهدافه العقلائيّة والشرعيّة
149- إنّ مسألة ادّخار مؤونة سنةٍ, هي برنامجٌ يتمّ إجراؤه في الظروف العاديّة، وليس في الظروف المتأزّمة، ففي هذه الحالة فإنّ أئمّتنا عليهم السلام حالهم حال سائر الناس, إذ يهيّؤون مؤونتهم يوميّاً، ولا يجوّزون ادّخارها لمدّة سنةٍ. وبطبيعة الحال، في وقتنا الحاضر لا يتحقّق الادّخار بتوفير الأطعمة، بل يتمّ من خلال توفير الدخل الماليّ الزائد عن الحاجة.
150- الإحسائي، عوالي اللئالي، م.س، ج2، ص53.
إلى قسمين، ممدوحٌ (ادّخارٌ مطلوبٌ)، ومذمومٌ (اكتناز منهيٌّ عنه):
أ- التوفير الأمثل (الممدوح):
إنّ الادّخار أو التوفير الأمثل الذي يجب على المؤمن انتهاجه هو ما تتحقّق به أهدافٌ لا تتنافى مع العقل والشرع، بل يتمّ من خلاله حفظ كرامة المؤمن، وعزّته، وصيانته وعياله من الفقر والحرمان، كما يعينه على القيام بواجباته على أكمل وجهٍ. ويتجلّى هذا النوع من التوفير في أمورٍ كثيرة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع معاً، منها: الوقف، والإنفاق في سبيل الله، ومساعدة الفقراء، وإنشاء طرقٍ، وتوسيع شبكات المياه، وبناء جسور، وبناء مدارس، وبناء مستشفيات، وما إلى ذلك من أعمالٍ ممدوحةٍ.
وقصّة النبيّ يوسف عليه السلام في القرآن الكريم خير دليلٍ على أهمّيّة الادّخار, وذلك عندما فسّر رؤيا فرعون مصر في البقرات السبع العجاف بسنوات الجفاف, والجدب, ومن ثمّ اقترح عليه توفير القمح, لتجاوز هذه المحنة. جاء في كتاب الله العزيز: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾151. نستلهم من هذه الآيات المباركة أنّ الهدف من الادّخار يكون حميداً, لو كان الهدف منه حماية اقتصاد المجتمع، والحفاظ على تماسكه, لدرجة أنّ نبيّاً من أنبياء الله تعالى قد تولّى هذه المهمّة بنفسه.
والنصوص الحديثيّة – أيضاً – أكّدت على هذا المبدأ في تدبير المعيشة, أي ضرورة ادّخار مؤونة سنةٍ، كما جاء في الحديث المرويّ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : “فَإنَّ النّاسَ إنَّما يُعطَونَ مِن السَّنةِ إلى السَّنةِ، فَللرِّجُلِ أنْ يَأخُذَ ما يَكفِيهِ وَيَكفِي عِيالَهُ مِن السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ”152.
كما أجاب الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام على سؤال معمّر بن خلاّد عن توفير طعام سنةٍ، قائلاً: “أنا أفعَلُهُ”، ويعني بذلك إحراز القوت153.
واعتبر الإمام محمّد الباقر عليه السلام طلب الرزق في الدنيا, بهدف التعفّف عن سؤال الناس، وتلبيةً لمتطلّبات الأسرة، وإعانةً للجار, أنّه أمرٌ ممدوحٌ، وثوابه الأخرويّ عظيمٌ جدّاً.
151- يوسف: 46-49.
152- ابن بابويه، معاني الأخبار، م.س، ص153.
153- ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه، م.س، ج3، ح3620، ص167.
حيث قال: “مَن طَلَبَ الرِّزقَ فِي الدُّنيا, استعفافاً عَن النّاسِ، وَتَوسِيعاً عَلى أهلِهِ، وتَعَطُّفاً عَلَى جارِهِ, لَقِيَ اللهَ عزَّ وَجلَّ يَومَ القِيامَةِ وَوَجهُهُ مِثلُ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ”154.
خدمة المجتمع توفيرٌ واقتصاد:
إنّ توفير الخدمات العامّة للمجتمع من شأنه المساعدة على ادّخار النعمة، وفي الوقت نفسه يُعدّ ذخراً معنويّاً للعبد في آخرته, كحفر بئرٍ، أو شقّ قناةٍ, لتأمين مياه الشرب والسَّقي للناس. ولهذا التوفير آثاره المعنويّة التي لا ينكرها أحدٌ. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام :”سِتُّ خِصالٍ يَنتَفِعُ بِها المؤمِنُ بَعدَ مَوتِهِ: وَلَدٌ صالِحٌ يَستَغفِرُ لَهُ، وَمُصحَفٌ يُقرَأ فِيهِ، وَقُلَيبٌ يَحفِرُهُ، وَغَرسٍ يَغرِسُهُ، وَصَدَقَةُ ماءٍ يجرِيهِ، وَسُنَّةٌ حَسَنَةٌ يُؤخَذُ بِها بَعدَهُ”155.
وقد نقل المؤرّخون فضائل كثيرة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، منها: قيامه بحفر بئر “ينبُع” وقنواتٍ عديدةٍ, كقناة “أبو نيزر”، و”بغيبغة”، حيث جعلها وقفاً في سبيل الله تعالى. ولا زالت آثار بعضها باقيةً حتّى يومنا هذا في منطقةٍ تُعرف باسم آبار عليٍّ156.
154- الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الحث على الطلب…، ح5، ص78.
155- ابن بابويه، الأمالي، م.س، ص233.
156- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج13، ص303-307.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام كانوا مثالاً يُحتذى به في السبق إلى الخيرات, لأجل حفظ المصالح العامّة، وتوفير الخدمات لأبناء جلدتهم، ودائماً ما كانوا يوصون الناس بذلك. فقد روى معتب: قال لي الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “وَقَدْ يَزِيدُ السِّعرُ بالمدِينةِ، كَمْ عِندَنا مِن طَعامٍ؟”. قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرةً. قال عليه السلام: “أخرِجْهُ وَبِعْهُ”. قلت: وليس بالمدينة طعامٌ؟! قال عليه السلام: “بِعْهُ”. فلمّا بعته، قال عليه السلام: “اشتَرِ مَعَ النّاسِ يَوماً بِيَومٍ”، ثمّ قال عليه السلام: “يا معتبُ، اجعَلْ قُوتَ عِيالِي نِصفاً شَعِيراً، وَنِصفاً حِنطَةً, فإنَّ اللهَ يَعلَمُ أنِّي واجدٌ أنْ أُطعِمَهُم الحِنطَةَ عَلَى وَجهِها، وَلكِنِّي أُحِبُّ أنْ يَرانِي اللهُ عزَّ وَجَلَّ قَد أحسَنتُ تَقديرَ المعِيشةَ”157.
وتأكيد تعاليمنا الدينيّة على أهمّيّة الادّخار وحثّنا على انتهاجه, دليلٌ على فائدته ومكانته السامية. فالشعب الذي يروم تحقيق الأهداف المنشودة في بلوغ درجات الرقيّ الاقتصاديّ، وتحقيق الاكتفاء الذاتيّ في الإنتاج المحليّ, لا بدّ له من تسخير الأموال والجهود في هذا المضمار، وتحمّل بعض المصاعب، وغضّ النظر عن بعض ملذّات الحياة, وإن كانت مشروعةً.
157- الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، ط4، لام، منشورات دار الكتب الإسلاميّة، 1365هـ.ش، ص161.
ب- الادّخار المذموم (الاكتناز المنهيّ عنه):
التوفير هو جمع الأموال وادّخارها لوقت الحاجة، وحسب التعاليم الدينيّة، فإنّ جواز ذلك أو عدمه منوطٌ بالأهداف المتوخّاة منه، فإن كانت الأهداف تتّفق مع حكم العقل والشرع, يكون الادّخار مطلوباً، ولا بدّ منه. وأمّا إن كانت هذه الأهداف لا تنسجم مع حكم العقل والشرع, فسيكون الادّخار حينها مذموماً ومنهيّاً عنه, لأنّه يؤدّي إلى تسخير الثروة في غير رضا الربّ، ويحرم المجتمع والفقراء من منافعه. إذ أنّ أصحاب هذا المال المكتنز سيتنصّلون من أداء واجباتهم الماليّة تجاه أبناء مجتمعاتهم. لذلك، فإنّ جمع المال من قِبَل الأثرياء, بهدف جني ثروةٍ طائلةٍ، أو احتكار بضاعةٍ يحتاجها الناس, سيؤدّي إلى حرمانهم من حقوقهم المشروعة.
وهذا العمل بذاته يُعدّ من أكثر الأفعال قبحاً، حيث أنّب الله تعالى هؤلاء في كتابه المجيد تأنيباً شديداً، وهدّدهم بالعذاب الأليم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾158.
كما ذمّ عزّ وجلّ البخلاء، والذين يكنزون الأموال ولا ينفقوها، بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا
158- التوبة: 34.
آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾159.
والنصوص الروائيّة هي الأخرى ذمّت اكتناز الأموال وادّخارها في ما نُهِيَ عنه، وذُكِرَ في بعضها أنّ عقوبة الله تعالى جرّاء هذا العمل، هي: ابتلاء الناس بالقحط والجدب، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا أبغَضَ النّاسُ فُقَراءَهُم، وَأظهَرُوا عِمارَةَ أسواقِهِم، وَتَبارَكُوا عَلَى جَمعِ الدَّراهِمِ, رَماهُم اللهُ بِالقَحطِ مِن الزَّمانِ”160. إنّ الفعل البخيل مذمومٌ, لأنّه لا يُرجّح تلبية حاجات مجتمعه ودينه على ما يظنّه من حاجاتٍ قد تطرأ عليه وعلى أسرته. فالحريص أو البخيل لا يتقيّد بحدٍّ معيّنٍ لادّخار المال، بل يجمع المال بشرَهٍ، ويحاول جني ثروةٍ دون رويّةٍ, إذ تطغى عليه الأنانيّة، ولا يعير أيّ أهمّيّةٍ لمتطلّبات الآخرين وحوائجهم, حتّى لو كان ذوي الحاجات مؤمنين, لأنّ مصلحة المجتمع الإسلاميّ لا تمتّ إليه بصلةٍ, لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، وهمّه الوحيد جمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من المال.
3- الأسلوب الأمثل في حفظ المال المدّخر وتناميه:
إنّ إدارة شؤون الحياة بأسلوبٍ مناسبٍ يتطلّب حُسن تدبيرٍ وتخطيطٍ صحيحٍ، ومَن يأخذ المستقبل بعين الاعتبار ولا يغفل عن عواقب أفعاله, سيضمن عيشاً رغيداً لنفسه ولأهله.
159- النساء: 37.
160- النراقي، جامع السعادات، م.س، ج2، ص65.
والتخطيط للمدى البعيد على المستوى الاقتصاديّ يُعدّ من المسائل الهامّة في ديننا الحنيف, إذ أعاره عظماء ديننا أهمّيّةً بالغةً. قال الإمام عليّ عليه السلام : “فَدَعْ الإسرافَ مُقتَصِداً، وَاذكُرْ فِي اليَومِ غَدَاً، وَأمسِكْ مِن المالِ بِقَدَرِ ضَرورَتِكَ، وَقَدِّمْ الفَضلَ لِيَومِ حاجَتِكَ”161.
وذكر الإمام موسى الكاظم عليه السلام طريقة حفظ المال وادّخاره، عن والده الإمام جعفر الصادق عليه السلام، حيث روى معمّر بن خلاّد: أنّ رجلاً أتى الإمام جعفر الصادق عليه السلام شبيهاً بالمستنصح له، فقال له: يا أبا عبد الله كيف صرت اتّخذت الأموال، قطعاً متفرّقة، ولو كانت في موضعٍ واحدٍ كان أيسر لمؤنتها وأعظم لمنفعتها. فقال أبو عبد الله عليه السلام: “اتَّخذتُها مُتفَرِّقَةً, فإنْ أصابَ هذا المالَ شيءٌ، سَلِمَ هذا، وَالصّرَةُ تَجمعُ هذا كُلَّهُ”162.
فالإمام الصادق عليه السلام يعلّمنا الأسلوب الصحيح في توفير المال, وذلك بادّخاره في عدّة أماكن, كاستثماره في عدّة مشاريع, فذلك أنسب وأحفظ له. فلو وقعت حادثةٌ, فإنّ المال لا يتلف كلّه، ويبقى منه شيءٌ، ولا يحتاج الإنسان إلى الآخرين حينها.
161- الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج3، الرسالة21، ص19.
162- الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب شراء العقارات…، ح1، ص91.
والذين يريدون اتّباع الأسلوب الأمثل في ادّخار المال، ويرغبون بتخصيص جزءٍ من دخلهم في هذا المضمار, يجدر بهم أن يدّخروه بطريقةٍ تحفظه من الركود، وفي الوقت نفسه يزداد ويتنامى وينتفع به
سائر أبناء المجتمع الإسلاميّ, وذلك باستثماره.
إضافةً إلى ما ذُكِرَ، يجب الأخذ بعين الاعتبار مدى التضخّم الاقتصاديّ، والسعي في مواجهته, عبر اجتناب ادّخار النقد المالي، أو ادّخاره, بطريقةٍ لا يفقد معها قيمته بمرور الزمان، بل في هذه الحالة يجب
تبديله إلى بضاعةٍ تتزايد قيمتها بمرور الوقت.
على سبيل المثال: لو أراد شخصٌ أن يدّخر مالاً لشراء أثاث منزلٍ لزواجه, فيجدر به أن لا يكتنز المال وينتظر أوان زواجه, فيشتري ما يحتاج إليه، بل عليه أن يُعدّ هذا الأثاث منذ حصوله على المال قبل
أوان زواجه. أو إذا أراد شخصٌ شراء دارٍ ولم يتمكّن من ذلك، فلا يجدر به ادّخار المال حتّى يجمع ثمن منزلٍ، بل عليه أن يشتري بما لديه من مالٍ أرضاً، وبعد ذلك يبنيها بالتدريج.
خلاصة:
– طريقة التدبير في المعيشة: هي الأسلوب الذي يتمّ من خلاله تنفيذ السياسات الاستراتيجيّة العامّة في أمور المعيشة وإدخالها في حيّز الإجراء.
– الدخل: هو، جميع الأموال وأثمان السلع التي يحظى بها إنسانٌ، أو مجموعةٌ من الناس، أو مؤسّسةٌ، أو أيّ مكوّنٍ اقتصاديٍّ, في مدّةٍ معيّنةٍ.
– لم يحدّد الاقتصاد الإسلاميّ مستوىً معيّناً للدخل من الناحية الكمّيّة، ولكنّه حدّد له إطاراً معيّناً من الناحية النوعيّة, أي وجوب كونه مشروعاً.
– الدخل المادّيّ للإنسان نوعان، هما ما يكتسبه الإنسان من طريقٍ مشروعٍ (حلال)، وما يكتسبه من طريقٍ غير مشروعٍ (حرام). فالكسب الحلال ينوّر القلب، ويجعل العبد مستحقّاً ثواب المجاهد في سبيل
الله تعالى. وبالتالي ستشمله رحمته الواسعة. أمّا الكسب الحرام, فهو من كبائر الذنوب، حيث يضيع معه العمل، ويحرم العبد من استجابة الدعاء، ويجعله مستحقّاً للّعنة ونار جهنّم.
– الطريقة المُثلى في الاستهلاك حسب المعايير الدينيّة, تتجلّى في قضايا عديدة، منها: ترك الإسراف والتبذير، وفي
الوقت نفسه اجتناب البخل والتقتير، وكذلك وجوب الابتعاد عن الإفراط في الزينة والتجمّل. ويجب على الإنسان مراعاة الاعتدال، والقناعة، والإنفاق في سبيل الله تعالى، وإعانة الفقراء.
– تستعمل كلمتا الإسراف والتبذير في كثير من الأحيان بمعنىً واحدٍ، ويمكن القول: إنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال من دون أن نخسر شيئاً. والتبذير: هو الإنفاق الكثير، بحيث يؤدّي إلى إتلاف
النعمة وتضييعها.
– الإفراط في الاستهلاك, بهدف التكبّر على الآخرين، والتفاخر، والتنافس, يُعدّ من الخُلُق الذميمة التي لا تتناسب مع شخصيّة الإنسان المحترم.
– المعيار الأساس للاستهلاك لدى المسلم, هو: انسجامه مع مصالح النظام الإسلاميّ، وعدم مخالفته القيَم السامية.
– للادّخار تأثيرٌ كبيرٌ على الرقيّ الاقتصاديّ، ويعتبر أحد العوامل الأساسيّة في انسجام أعضاء الأسرة أو المجتمع. وبالطبع، فإنّ هذا الإنسجام لا يتحقّق إلا بإشراف مسؤولٍ يُحسن التدبير.
نتائج حسن التدبير وعواقب سوء التدبير
سنتطرّق في خاتمة الكتاب إلى قضايا ذات صلة بالمعيشة في إطار موضوعين أساسيّين، هما: حُسن التدبير، وسوء التدبير. وبالطبع، فإنّ نطاق التدبير واسعٌ جدّاً, لذا، سنكتفي بذكر بعض جوانبه.
أوّلاً: النتائج الحميدة لحسن التدبير:
1- التنعُّم بحياةٍ مثاليّةٍ:
لا شكّ في أنّ حسن التدبير والتخطيط الصحيح للمعيشة، يمكّن الإنسان من التنعّم بحياةٍ مثاليّةٍ. والحياة المثاليّة حسب التعاليم الإسلاميّة, هي حياة الكفاف التي يتمكّن المسلم فيها من تأمين سلامته النفسيّة والبدنيّة, من خلال سعيه الحثيث، كما يتسنّى له فيها اجتناب الإفراط والتفريط في المعاش1, لذلك، فإنّ نبيّنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حفّزوا الناس على القناعة والكفاف في المعيشة. فالإنسان في معيشةٍ كهذه,
1- انظر: الحسيني، فقر وتوسعه در منابع دينى(باللغة الفارسية)، م.س، ص614-615.
سيتمكّن من توفير نفقات معيشته، والمتطلّبات المشروعة لأسرته ومجتمعه.
فنفقات المعيشة على المستوى الشخصيّ تشمل جميع النفقات التي يحتاجها الإنسان في تأمين حياةٍ مثاليّةٍ ونزيهةٍ، حيث تشمل أجور الطعام، والثياب، والسكن، وأجور النقل، وما شاكل ذلك. كما يُفترض بالإنسان أن يسخّر الفاضل من دخله لبعض الموارد المعيشيّة, كاقتناء العطور، ووسائل النظافة، والصحّة، والتزيين المعتدل, والاهتمام باللباس، وكذلك عليه ادّخارها لزواجه. وإذا اقتضت الضرورة، يمكنه أن يستعمل خادماً يعينه، أو يشتري له ما يحتاج إليه من وسائل في حياته، أو يقوم بإصلاح ما لديه من وسائل تالفة أو تعميرها.
أمّا نفقات الأسرة، فتشمل كلّ ما يحتاج إليه ممَّن تجب نفقتهم من أفرادها, إذ يجب على ربّ الأسرة أن يوفّر جميع متطلّبات والديه وزوجته وأبنائه, من مأكلٍ متنوّعٍ، وملبسٍ مناسبٍ. كما يجدر به أن يكون قادراً على ضيافة الأصدقاء والأقارب وإطعامهم، ويسعى لتحسين نوع الغذاء الذي يقتنيه في الأعياد وسائر المناسبات، ويحاول تأمين مؤونة عامٍ كاملٍ2.
2- طبعاً هذه الأمور جديرةٌ بالاهتمام في الأوضاع الطبيعيّة التي لا قحط فيها ولا جدب. وبالنسبة لتوفير متطلّبات الحياة لمدّة عامٍ كاملٍ، حسب ما ذكر في نصوص الحديث، دليلٌ على ضرورة ارتفاع المستوى المعيشيّ للناس في المجتمع الإسلاميّ، ووجوب استئصال الفقر والحرمان منه, أي لا بدّ وأن يتمتّع جميع أبنائه من توفير متطلّباتهم لمدّة عامٍ على أقلّ تقديرٍ. فتوفير المؤونة السنويّة يعدّ برنامجاً ناجعاً, لمكافحة الفقر، وبناء حياةٍ طيّبةٍ ينعم بها الإنسان ويُبرز فيها قدراته وكفاءاته, وهذا الأمر بذاته يُعدّ وازعاً لتكامل شخصيّة الفرد، ورقيّ المجتمع في آنٍ واحدٍ، وبالتالي من شأنه إعانة الإنسان لأداء واجباته الاجتماعيّة.
وأمّا النفقات الاجتماعيّة, فهي الأموال التي ينفقها الإنسان, لتحسين وضع المجتمع، ونظم أموره. فالحقوق الماليّة على قسمين: واجبةٌ ومستحبّةٌ, منها القرض والعارية. وبالطبع، فإنّ الإنسان مكلَّفٌ بأداء نشاطاتٍ إيجابيّةٍ في مجتمعه عبر بذل الأموال حسب استطاعته، مثل: إعانة ذوي الحاجة لتيسير زواجهم. كما يجب عليه المشاركة في العبادات الجماعيّة, كالحجّ الذي تُشرط فيه الاستطاعة الماليّة3.
إذن، نستنتج ممّا ذُكِرَ أنّ الحياة المثاليّة تتحقّق عندما ينعم الإنسان بحياةٍ مناسبةٍ مادّيّاً في المجالين الكمّيّ والنوعيّ, وهذه هي الحياة التي تنطبق مع تعاليم الشريعة الإسلاميّة, لما تتمتّع به من رفاهيةٍ وطمأنينةٍ. وبالتأكيد، فإنّ الرفاهيّة الشخصيّة وازعٌ لتحقّق الرفاه الاجتماعيّ – أيضاً -. وفائدة الرفاهيّة تكمن في قابليّة استثمار جميع أعضاء الأسرة أو المجتمع إمكانيّاتهم إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ، وقدرتهم على مزاولة مهامّهم العائليّة، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة, بدقّةٍ واهتمامٍ كبيرين.
وهناك أمورٌ تتعلّق بموضوع الرفاهيّة في المعيشة، لا بدّ لنا
3- الحسيني، فقر وتوسعه در منابع دينى(باللغة الفارسية)، م.س، ص21-24.
من ذكرها هنا، وهي:
أ- إنّ الله تعالى يريد لعباده أن يعيشوا حياةً مرفّهةً، حيث أكرمهم بنَعمٍ لا حصر لها، كما قال في كتابه المجيد: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾4. ويسّر تعالى لهم استثمار هذه النِّعم دون عناءٍ ومشقّةٍ، ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾5.
ب- إنّ توفير وسائل الراحة والرفاهيّة, من شأنه إعانة الإنسان لبلوغ درجة القرب الإلهيّ, لأنّ التنعّم بعطاء الله تعالى لا بدّ وأن يكون داعياً لزيادة شكر العبد، وتهذيب نفسه, فيتقرّب بذلك من ربّه. لذا، عليه أن لا يُعاند ولا يغفل عن ذلك. فالكثير من الناس عندما يُنعِم الله تعالى عليهم يغفلون عن ذكره وشكره، وقد تؤول بهم الأوضاع إلى الطغيان والتمرُّد على أوامره.
ج- يختلف معنى الرفاهيّة في التعاليم الإسلاميّة عن معناها في الأفكار والنظريّات الأخرى, إذ توصي تعاليمنا الدينيّة بوجوب تحقّقها بطرقٍ مشروعةٍ، وعدم ابتنائها على أساسٍ
4- الأعراف: 32.
5- النحل: 7.
محرّمٍ، أو تأديتها إلى التعدّي على حقوق الآخرين، أو الوقوع في الإسرافٌ والتبذير.
د- إنّ المثل العليا للحياة المرفّهة في المجتمع الإسلاميّ تتطلّب تغييراتٍ جذريّةً في الرُّؤى والمبادئ, وهذه التغييرات لا تتحقّق إلا في ظلّ حكومة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، إذ بعد ظهوره الميمون, سوف تُخرِج الأرض بركاتها، وينعم الناس بخيراتٍ لا نظير لها على مرّ العصور. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “تَتَنعَّمُ أُمَّتِي فِي زَمنِ المهديِّ عليه السلام نِعمَةً لَم يَتَنعَّمُوا مِثلها قَطُّ، يُرسِلُ السَّماءَ عَلَيهِم مِدراراً، وَلا تَدَعْ الأرضُ شَيئاً مِن نَباتِها إلا أخرَجَتهُ”6.
2- العائلة الصغيرة:
إنّ الانفجار السكّانيّ له مضرّاتٌ وآثارٌ سلبيّةٌ, إذ يؤدّي إلى تسخير الثروة والإمكانيّات, لتأمين حاجات المجتمع الابتدائيّة، ويحول دون تنفيذ برامج وخطط بعيدة الأمد, ترفع من مستوى النموّ الاقتصاديّ. وفضلاً عن المستوى المعيشيّ المتدنّي للناس في ظروفٍ كهذه، فإنّ المجتمع سيواجه حينها مشاكل عديدةً على جميع المستويات الأخلاقيّة، والعقائديّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة.
6- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج51، ص97.
فحسن التدبير يقتضي السيطرة على معدّل التكاثر في المجتمع, أي تقليص العدد، ورفع مستوى الكفاءة. وبعض النصوص الدينيّة تحذّر الناس من التكاثر غير المحدود، كما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “هَلَكَ صاحِبُ العِيالِ”7. والتدبير الصحيح في هذا المجال, من شأنه أن يُعين الحكومة في السّيطرة على معدّل الارتفاع السكّانيّ، ووضعٍ برنامجٍ منظّمٍ له. فالكثافة السكّانيّة المنسجمة مع الإمكانيّات الاقتصاديّة, تُعدّ من دعائم الرفاه الاقتصاديّ في المجتمع, الأمر الذي أكّد عليه الإمام عليّ عليه السلام، بقوله: “قِلَّةُ العِيالِ أحَدُ اليَسارَينِ”8.
3- زيادة الإنتاج وارتفاع مستوى الدخل:
إنّ استقرار الفرد والمجتمع منوطٌ بكيفيّة استثمار الثروات المختلفة. وقد أكّدت الشريعة المقدّسة على ضرورة اتّخاذ أنسب السبُل في استثمار الأموال, كإيداعها في أيدٍ أمينةٍ ذات أفقٍ فكريٍّ اقتصاديٍّ ناضجٍ، وعدم تمكين السُّفهاء منها، حيث قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾9. كما ذمّت ركود الثّروة، وأنّبت الذين يكتنزون الأموال والذين يهدرونها عبثاً على حدٍّ سواء, لأنّ هذه التصرّفات تزلزل أركان المجتمع
7- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج62، ص281.
8- الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج4، الحكمة141، ص34.
9- النساء: 5.
اقتصاديّاً، وتحول دون تطوّره.
فالإنسان يكون قادراً على التنعّم بحياته من خلال جهوده المثمرة، وحسن تدبيره في استثمار ما بحوزته من مصادر اقتصاديّةٍ, إذ من المؤكّد أنّ الاستثمار العشوائيّ للثروة، والإسراف، والإدارة العقيمة، والتكاسل, كلّها أمورٌ تسوق الإنسان نحو التبعيّة للآخرين، والفقر، والتخلّف.
إنّ الماء والتراب هما من أهمّ العوامل الطبيعيّة في التطوّر والرقيّ، واقتصاد المجتمع متعلّقٌ بهما إلى أبعد الحدود, وبالتدبير الصحيح والتخطيط الأصيل في استثمار المياه العذبة، والأراضي الخصبة، وإحياء الأراضي المتروكة, يتسنّى للناس مضاعفة مقادير المحاصيل الزراعيّة والمنتجات الحيوانيّة، وترسيخ الدعائم الاقتصاديّة للأسرة والمجتمع، وبلوغ درجة الكفاف والاكتفاء الذاتيّ.
إنّ تشجيع تعاليمِنا الدينيّة على الاستثمار في هذا المجال برهانٌ على أهمّيّته البالغة10. وعلى العكس من ذلك, فإنّ الاستثمار السيّئ للثروات أمرٌ يبغضه الله تعالى، حتّى إهدار قليلٍ من الماء، حيث قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام :”إنَّ السَّرفَ أمرٌ يُبغِضُهُ اللهُ عزَّ وَجلَّ… حَتَّى صَبُّكَ فَضلَ شَرابِكَ”11.
10- انظر: العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج12، ص44-46.
11- الكليني، الكافي، م.س، ج4، أبواب الصدقة، باب فضل القصد، ح2، ص52.
لذلك، فإنّ إهمال الأرض الخصبة ذات المياه الوفيرة، وعدم قدرة الناس على استثمارها, يُعدّ أمراً غير منطقيٍّ، ولا ينسجم مع العقل وأصول التدبير الصحيح، بل سيؤدّي إلى حرمان الناس من رحمة الله تعالى, فمن خلال استثماره بشكلٍ صحيحٍ يمكن اجتثاث جذور الفقر في المجتمع، ورفع مستوى الرفاهيّة فيه. وهذا ما رواه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام، حين قال: “مَن وَجَدَ ماءاً وَتُراباً ثُمَّ افتَقَرَ، فَأبعَدَهُ اللهُ”12.
4- النجاة من النّدم:
إنّ المسؤول الناجح هو المدبّر الذي يتمكّن من وضع مناهج اقتصاديّةٍ مناسبةٍ في نشاطاته الإداريّة، ويرجّح أداء الأهمّ على المهمّ, حسب الأولويّات المطروحة في عمله والنتائج المتوخّاة, أي أنّه قبل اتّخاذ أيّ قرارٍ لا بدّ له من القيام بدراسته على كافّة المستويات، وعليه بذل قصارى جهده لسلوك المسير الصحيح في إدارة الأمور. فوليّ الأمر الذي يتعقّل في أفعاله ويتّخذ التدبير منهجاً له, سوف لا يندم على تصرّفاته, لأنّ البرنامج الصحيح والمنسّق قبل العمل يحول دون الانحراف والزلل. وقد اختصر سيّد البلغاء الإمام عليّ عليه السلام هذه الأمور بجملةٍ قصيرةٍ بقوله:
12- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج17، أبواب مقدّمات التجارة، باب استحباب الغرس…، ح13، ص40-41.
“التَّدبِيرُ قَبلَ العَمَلِ يُؤمِنُكَ مِن النَّدَمِ”13.
5- إتقان العمل:
من المؤكّد أنّ العمل المُتقن, هو نتيجةٌ لحسن التدبير والتخطيط الصحيح. أمّا العمل العشوائيّ الذي لا إتقان فيه, فهو نتيجةٌ للتّخطيط السيّئ، وسوء التدبير أو عدمه, وهو مذمومٌ، ومنهيٌّ عنه، وعاقبته الحسرة والندم. لذا، فإنّ التعاليم الدينيّة أكّدت على ضرورة إتقان العمل وعدم التكاسل في أداء الواجبات، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :”إذا عَمِلَ أحَدُكُم عَمَلاً فَليُتقِن”14. وإتقان العمل مهمٌّ, لدرجة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل في مرقد سعد بن معاذ وسوّى اللّبن عليه، وجعل يقول ويكرّر: “ناوِلْنِي حَجَراً، ناوِلْنِي تُراباً رَطِباً”, لكي يسدّ به ما بين اللّبن. فلمّا فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال: “إنِّي لأَعلَمُ أنَّهُ سَيبلَى وَيَصِل إليهِ البلاءُ، وَلكِنَّ اللهَ يُحِبُّ عَبداً إذا عَمِلَ عَمَلاً أحكَمَهُ”15.
6- ارتفاع مستوى الادّخار16 والاستثمار:
الادّخار: هو حفظ الأموال التي يحصل عليها الإنسان
13- ابن بابويه، الأمالي، م.س، ص532.
14- الكليني، الكافي، م.س، ج3، كتاب الجنائز، باب النوادر، ح45، ص263.
15- ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): علل الشرائع، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، لاط، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، 1385هـ.ق/ 1966م، ج1، ص310.
16- المقصود من الادّخار: نوعيه: الماديّ والمعنويّ.
دخله الحاليّ, من أجل إنفاقها في المستقبل. أمّا الاستثمار, فهو تسخير هذه الأموال في عجلة الإنتاج، وكسب دخلٍ جديدٍ17.
والبرنامج الناجح في الادّخار والاستثمار ذو صلةٍ وثيقةٍ بالتدبيرٍ الصحيحٍ في أمور المعيشة وتخصيص الدخلٍ الفرديّ, لأنّ الاستهلاك المُفرِط للأموال أو ركودها لا يؤدّي إلى تحقيق أيّ عائدٍ منها، كما هو الحال في التقاعس عن أداء الواجبات الذي لا يتحقّق من ورائه أي ادّخارٍ.
فالأراضي الزراعيّة ذات المحاصيل الوفيرة التي أوقفها الناس في عهد الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولا سيّما عهد الإمام عليّ عليه السلام، حُظِيَت باهتمامهم عليهم السلام، وبذلوا قصارى جهودهم في حفظها واستثمارها قدر المستطاع. وهذا الأمر بذاته شاهدٌ على حسن تدبيرهم، وأهمّيّة الادّخار والاستثمار عندهم عليهم السلام. وبالطبع، فإنّ إدارة مشاريع ضخمةٍ كهذه من دون تدبيرٍ صحيحٍ ومنهجٍ دقيقٍ, سوف تكون فاشلةً, لذلك يجب على الإنسان أن يقتدي بهم عليهم السلام في تدبير شؤون معيشته, كي يتمكّن من ادّخار ماله واستثماره.
17- رشاد، علي أكبر: موسوعة الإمام عليّ عليه السلام (دانشنامه إمام عليّ عليه السلام)، ط1، طهران، منشورات مركز الثقافة والفكر الإسلاميّ، 1380هـ.ش، ج7(الاقتصاد)، ص302.
7- التنميّة الاقتصاديّة18:
لو تمّ تحديد أهدافٍ صحيحةٍ في برامج المعيشة, فسوف يلوح أُفقٌ جديدٌ للمستقبل الزاهر. لذا، يجب على الإنسان تعيين زمنٍ مناسبٍ لأداء أيّ عملٍ برؤيةٍ دقيقةٍ، وكذلك عليه دراسة مدى الإمكانيّات المتاحة, لكي يتسنّى له وضع برنامجٍ منظّمٍ من جميع الجهات. وبالطبع، فإنّ ثمرة برنامجٍ كهذا تتجلّى في نظم الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة للفرد والمجتمع. والحصيلة النهائيّة ستكون نموّاً اقتصاديّاً ورخاءاً للجميع. يقول الإمام عليّ عليه السلام :”حُسن التَّدبيرِ ينمي قَليلَ المالِ”19.
8- حفظ كرامة النفس:
لا شكّ في أنّ الإنسان الذي يُحسن التدبير في معيشته, سيحفظ كرامته وعزّته في المجتمع. وسنتطرّق إلى ذكر بعض المسائل عن هذا الأمر, لكي تتّضح مدى أهمّيّته لكلّ إنسانٍ.
فالعزّة: “حالةٌ مانعةٌ للإنسان من أن يُغلَب. من قولهم (أرضٌ عِزازٌ), أي صلبةٌ”20. والقرآن الكريم بدوره أكّد على سموّ هذه الصفة في آياتٍ عديدةٍ، نذكر منها ما يلي:
18- من الطبيعيّ أنّ النموّ الاقتصادي لا يكون إلا نتيجةً للتدبير الصحيح على مستوى الحياة الاجتماعيّة، ولكنّنا نطرح في هذا الكتاب بعض المواضيع التي تتناسب مع هذا المبدأ.
19- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، م.س، ص227.
20- الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، م.س، مادّة “عزّ”.
أنّ العزّة الحقيقيّة لله جلّ شأنه: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾21.
كما أنّ العزّة لله تعالى، فكذلك لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾22.
وطريق كسب العزّة, هو التقرّب إلى الله عزّ وجلّ وطلبها منه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾23. وقد عقّب العلامة محّمد حسين الطباطبائيّ رحمه الله على هذه الآية، قائلاً: “هذا القول ليس بمسوقٍ لبيان اختصاص العزّة بالله, بحيث لا ينالها غيره، وأنّ من أرادها فقد طلب محالاً وأراد ما لا يكون، بل المعنى: من كان يريد العزّة, فليطلبها منه تعالى, لأنّ العزّة له جميعاً لا توجد عند غيره بالذات. فوضع قوله: ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ في جزاء الشرط, من قبيل: وضع السبب موضع المسبّب, وهو طلبها من عنده, أي اكتسابها منه بالعبوديّة التي لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح”24.
21- يونس: 65.
22- المنافقين: 8.
23- فاطر: 10.
24- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج17، ص22.
فعزّة النفس تقوّي روح التحرّر وحبّ الاستقلال لدى جميع أعضاء المجتمع, لأنّ إحساس الإنسان بالاستغناء عن الآخرين يرسّخ دعائم التحرّر والاستقلال في نفسه.
ولعزّة النفس فوائد في الجانب الاقتصاديّ – أيضاً -، منها أنّها:
– تساعد على رفع مستوى الإنتاج، وتقليص الاستهلاك، وزيادة الادّخار.
– تحفّز الإنسان على استثمار الفائض عن الحاجة من الدخل في مساعدة الفقراء، ووقف أشياءٍ يحتاجها المجتمع.
– تكون وازعاً لعدم إنفاقِ المال في التجمُّل المُفرِط، وسبباً لاجتناب الإسراف وتبذير الأموال الخاصّة والعامّة.
9- سعة الرّزق:
هناك أسبابٌ عديدةٌ تؤدّي إلى زيادة الرزق، وارتفاع مستوى الدخل، أهمّها: البرنامج الصحيح، وحسن التدبير في أمور المعيشة. وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ الرزق لا ينحصر في العطاء المادّي وحسب، بل إنّ العطاء المعنويّ هو رزقٌ -أيضاً-25.
وقد قسّمت بعض الروايات الرزق إلى قسمين،26 هما:
25- انظر: المباحث التمهيدية.
26- قال الإمام عليّ عليه السلام: “يا ابنَ آدمَ، الرِّزقُ رِزقانِ, رِزقٌ تَطلُبُهُ وَرِزقٌ يَطلُبُكَ فَإنْ لَم تَأتِهِ أتاكَ”. الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج3، الكتاب31، ص55.
القسم الأوّل: رزقٌ يهبه الله تعالى لعبده من دون مشقّةٍ وعناء, كالمطر، ونور الشمس, اللذين تحيا بسببهما المخلوقات كافّةً، وكذلك الهواء الذي يحيا باستنشاقه جميع البشر والحيوانات والنباتات، وأيضاً العقل والإدراك الذي يولد مع ولادة ابن آدم.
القسم الثاني: رزقٌ لا يتحصَّلُ إلا عن طريق جهدٍ حثيثٍ، وبرنامجٍ منظّمٍ في الحياة, لأنّ الله تعالى يرزق الإنسان بمقدار جهوده ومساعيه، حيث قال في كتابه العزيز: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾27.
إذن، الجهد الحثيث هو أساس النجاح في الحياة، والذين يبذلون جهوداً أكثر, سوف ينعمون بالتوفيق ورفعة الرأس، بينما الكسالى والاتّكاليّين, سوف لا يكون نصيبهم سوى الحرمان والحاجة.
من شروط كسب الرزق
وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين:
الأولى: أنّ كسب الرزق في الأساس يعتمد على العمل الصحيح البعيد عن أيّ إفراطٍ أو تفريطٍ. وما يصل إلى الإنسان من رزقٍ بغير سعي وعمل, إنّما هو شيءٌ ثانويٌّ وليس بأساسيٍّ.
27- النجم: 39.
ولعلّ هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين عليه السلام لتقديم ذِكر الرزق الذي يَطْلُبُه الإنسان على الرزق الذي يَطْلِبُ الإنسان بقوله: “يا ابنَ آدمَ، الرِّزقُ رِزقانِ, رِزقٌ تَطلُبُهُ وَرِزقٌ يَطلُبُكَ”28.
الثانية: صحيحٌ أنّ الاستفادة من مواهب الحياة مشروطةٌ بالجدّ والسعي والمثابرة، وأنّ الكسل والخنوع مدعاةٌ للتأخّر والحرمان من الخير, ولكنّه من الخطأ البيّن أن نتصوّر أنّ رزق الإنسان يزداد بالحرص، والولع، والأعمال الكثيرة, وأنّ رزقه يقلّ بالتعفّف، والتجلّد. ونلاحظ في الأحاديث الإسلاميّة تعابير دقيقة في هذا المجال، ففي حديثٍ عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “إنّ الرِّزقَ لا يَجرُّهُ حِرصُ حَريصٍ، وَلا يَصرِفُهُ كُرهَ كارِهٍ”29. وفي حديثٍ آخر عن الصادق عليه السلام, جواباً على بعض أصحابه، حيث طلب منه أن يعظه وينصحه، فقال عليه السلام: “وَإِنْ كانَ الرِّزقُ مَقسُوماً، فَالحِرصُ لماذا؟!”30.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مراعاة الاستراتيجيّات الصحيحة في تدبير المعيشة, كالبرنامج المنظّم والنظم، والانضباط، والرؤية المستقبليّة، واتّباع الإنسان هذه الاستراتيجيّات, يؤدّي به إلى أن ينعم بحياةٍ مرفّهةٍ، ويحقّق طموحاته. فهذه الأمور هي في الحقيقة أبرز العوامل المادّيّة المؤثّرة في سعة الرزق، وهناك عوامل كثيرة معنويّة تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على سعة الرزق,
28- الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج8، ص258.
29- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب اليقين، ح2، ص57.
30- ابن بابويه، الأمالي، م.س، ص56.
الأمر الذي أشارت إليه نصوص روائيّة كثيرة. ففي الحياة الدنيا هناك نظامان علّيّان، أحدهما: مادّيٌّ. والآخر: معنويٌّ، وجميع العلل الدنيويّة تستفيض أساس علّيّتها من الله سبحانه وتعالى، فهو قادرٌ في كلّ آنٍ على أن يسلب العلّيّة من تلك العلل, إذا ما اقتضت المصلحة ذلك, كما حصل في سلب حرارة النار, عندما أُلقي فيها سيّدنا إبراهيم عليه السلام.
إنّ أصحاب الرؤية المادّيّة البحتة يظنّون أنّ العلل المادّيّة هي الوحيدة التي تؤثّر على رزق الإنسان، واستئصال جذور الفقر من المجتمع. أمّا أصحاب الرؤية الدينيّة، فيعتقدون أنّ تأثير العلل المعنويّة في الرزق، واستئصال جذور الفقر من المجتمع, هو بمستوى تأثير العلل المادّيّة، بل يرون أنّ تأثير الأولى أكثر. لذلك، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ كلّ من الإيمان والتقوى سببٌ لنزول بركاتٍ من الله تعالى وفتح أبواب رحمته. وأحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام تضمّنت أموراً معنويّةً كثيرةً تساعد على سعة الرزق وزيادة النعمة، منها: الشكر، وأداء الأمانة، وحُسن الخلُق، وحُسن الجوار، وإكرام الضيف، والاستغفار، والصدقة، وصلة الرحم، والإكثار من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وصلاة الليل، وتنظيف المنزل والثياب والأواني. فهذه الأمور، لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار في النظام الاقتصاديّ في
الإسلام، وفي جميع البرامج الاقتصاديّة، والمعيشيّة للأسرة والمجتمع على حدٍّ سواء, بغية تحقيق الأهداف المنشودة.
ثانياً: العواقب الوخيمة لسوء التدبير:
1- الفقر والحرمان:
يحصل – أحياناً – الفقر نتيجةً لسوء التّدبير في المعيشة، بحيث تُبتَلى به بعض العوائل، وربّما مجتمعات بأسرها. ويمكن تقسيم الفقر إلى نوعين، هما: فقرٌ مطلقٌ، وفقرٌ نسبيٌّ.
فالفقر المطلق: هو عدم قدرة الإنسان على تلبية الحاجات الضروريَّة في حياته, كالمأكل، والملبس، والمسكن، والعلاج.
أمّا الفقر النسبيّ: فهو عدم القدرة على توفير مستلزمات الحياة الطبيعيّة, أي أنّ الإنسان يحيى حياةً تتوافر فيها المستلزمات الضروريّة للعيش، ولكنّه يفتقر إلى بعض إمكانيات الرّفاهية, التي توفّر له سبُل الراحة بشكلٍ أكبر، وتساعده على رفع مستواه المادّيّ.
2- الإسراف والتبذير:
من النتائج الأخرى لسوء التّدبير، وفقدان البرنامج الصحيح في المعيشة, ابتلاء الإنسان بالإسراف والتّبذير، حيث تطرّقنا إليهما آنفاً. فحياة البذخ حسب التعاليم الإسلاميّة تُعدّ كفراناً للنّعمة، ومن كبائر الذنوب التي تُوجب العقاب الإلهيّ في الحياة
الآخرة قال تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾31. والعقلاء بدورهم ـ أيضاً ـ يذمّون حياةٍ كهذه ولا يستسيغونها, لذا يجب على الإنسان أن يراعي حُسن التدبير في معيشته، ويجتنب الإسراف والتبذير. يقول الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد:”مِن العَقلِ مُجانَبَةِ التَّبذِيرِ وَحُسنُ التَّدبِيرِ”32.
وتُعدّ حرمة الإسراف والتبذير من الأحكام الأساسيّة في النظام الاقتصاديّ في الإسلام، حيث يقضي هذا الإنفاق للأموال على روح العبوديّة لدى الإنسان، ويسلب منه الشعور بالمسؤوليّة، ويجعله أنانيّاً يعارض أيّ إصلاحٍ اجتماعيٍّ. وحياة الإسراف تمسخ شخصيّة الإنسان، وتفرغ ذهنه من القيَم المعنويّة، ولا تُبقي لديه أيّ دافعٍ للجدّ والنشاط في العمل، كما أنّها تمهّد الأرضية اللازمة لانتشار الفساد، ورواج المبادئ المنحرفة في المجتمع.
ونذكر في ما يلي بعض أهمّ عواقب الإسراف الوخيمة:
– الحرمان من محبّة الله تعالى: قال الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
31- غافر: 43.
32-الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، م.س، ص468.
كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾33.
– زوال النعمة والحرمان من البركة: قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام :”وَمَن بَذَّرَ وَأسرَفَ زالَتْ عَنهُ النِّعمَةُ”34. وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام :”إِنَّ مَعَ الإسرافِ قِلَّةُ البَرَكَةِ”35.
– عدم استجابة الدعاء: قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “أربَعةٌ لا يُستَجابُ لَهُم دعاءٌ: رَجُلٌ جالِسٌ فِي بَيتِهِ يَقولُ يا رَبِّ ارزُقنِي، فيقولُ لَهُ: أَلَم آمُرُكَ بالطَّلَبِ؟! وَرَجُلٌ كانَتْ لَهُ امرَأةٌ فَدَعا عَلَيها، فيقولُ لَهُ: أَلَم أَجعَل أمرَها بيدِكَ؟! وَرَجُلٌ كانَ لَهُ مالٌ فَأفسَدَهُ، فَيقُولُ يا رَبِّ ارزُقنِي، فيقولُ لَهُ أَلَم آمُرُكَ بالاقتَصادِ أَلَم آمُرُكَ بالإصلاحِ؟!”36.
– الفقر والحرمان: قال الإمام عليّ عليه السلام :”سَبَبُ الفَقرِ الإسرافُ”37.
والجدير بالذكر: انّ اعتقاد الإنسان بالمعاد والحساب في الحياة الآخرة يؤثّر على سلوكه، ويجعله دقيقاً في حساباته\
33- الأنعام: 141.
34- الحرّاني، تحف العقول، م.س، ص297.
35- الكليني، الكافي، م.س، ج4، أبواب الصدقات، باب كراهية السرف…، ح3، ص55.
36- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الدعاء على العدو، ح2، ص511.
37- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، م.س، ص282.
الاقتصاديّة وإنفاقه, لذلك أمرت الشريعة الإسلاميّة العباد بوجوب اجتناب النشاطات الاقتصاديّة التي تتعارض مع مصلحة المجتمع، وتتنافى مع الأصول الدينيّة. وكذلك ألزمته بترك الإفراط والتفريط في ما يلي: الأموال العامّة، والنوم، والطعام، والثياب، والضيافة، والحفلات، والمناسبات العائليّة، والاستفادة من النِّعم, كالماء، والكهرباء، وما شاكل ذلك.
3- التبعيّة الاقتصاديّة:
لو لم يتّبع الإنسان أو المجتمع منهجاً اقتصاديّاً صحيحاً يبتني على وضع خططٍ بعيدة الأمد لتدبير المعيشة, فلا محالة سيُبتلى بالتبعيّة للآخرين من الناحية الاقتصاديّة, أي أنّ زمام أموره المادّيّة ستكون بأيدي
الآخرين. وبالطبع، فإنّ هذا الوضع لا تُحمد عُقباه، وله مساوئ كثيرة، منها ما يلي38:
أ- هدر الطاقات الفرديّة والاجتماعيّة:
إنّ المجتمعات المرفّهة اقتصاديّاً والتي تتمتّع باكتفاءٍ ذاتيٍّ، تؤمِّن متطلّبات المجتمعات الأخرى المحرومة, من الأسس الاقتصاديّة التي تجعلها مستقلّة ومتحكِّمة بالمجتمعات الفقيرة. وهذه المجتمعات التابعة
لغيرها اقتصاديّاً ليس
38- على الرغم من أنّ الموارد التي سنذكرها في هذا المضمار مطروحةٌ على مستوى الحياة الاجتماعيّة، لكن يمكن تطبيقها على مستوى الحياة الشخصيّة ـ أيضاً ـ.
لأبنائها فكرٌ إبداعيٌّ يمكّنهم من توفير متطلّباتهم, بسبب توفّر سبُل العيش من مصدرٍ آخر، وبالتالي سوف تبقى قابليّاتهم كامنةً، ولن يتمكّنوا من استثمارها. وقد تقوم المجتمعات المُنتجة باستغلال قابليّات المجتمعات التابعة لها، وتسخّرها لمصالحها الخاصّة.
ب- الشعور بالنقص:
إنّ أبناء المجتمعات التابعة اقتصاديّاً لغيرها لا يجدون في أنفسهم قابليّة توفير متطلّباتهم المعيشيّة, لذلك، فهم يشعرون بالنقص، والذلّة أحياناً, وفي الوقت نفسه ينظرون إلى أبناء المجتمعات المتطوّرة اقتصاديّاً نظرة علوٍّ واحترام, لأنّهم تمكّنوا من بلوغ أهدافهم.
ج – مسخ الثقافة الوطنيّة:
إنّ المجتمعات النافذة من خلال تصدير بضائعها وخبرائها إلى المجتمعات الضعيفة اقتصاديّاً, تقوم في الوقت نفسه بتصدير ثقافتها، ونشر أفكارها في تلك المجتمعات. ومن جانبٍ آخر، فإنّ أبناء المجتمعات
الفقيرة, من منطلق إحساسهم بالعجز، وانبهارهم بقدرة المجتمعات النافذة, يحاولون تقليدهم في شتّى المجالات، مثل: نوعيّة الثياب، والمسكن، والسلع الاستهلاكيّة، ووسائل الزينة، بل إنّهم يتأثّرون بخلُقهم
وطباعهم النفسيّة, وهذا الأمر سيؤدّي إلى التبعيّة الثقافيّة، ومسخ الثقافة الأصيلة.
د- العبوديّة:
من المؤكّد أنّ الفرد أو المجتمع لو كان ذليلاً أمام الآخرين، ولم يتمكّن من توفير متطلّبات حياته, سيكون عبداً لهم39.
4- البطالة:
إنّ البرامج الاقتصاديّة الخاطئة، وسوء التدبير في المعيشة، وطرق الكسب المنحرفة، وفقدان المواهب اللازمة, كلّها أمورٌ تتسبّب في شيوع ظاهرة البطالة التي تُعدّ من المشاكل الاقتصاديّة المستفحِلة في بعض المجتمعات. فالمجتمع الذي يزخر بالأيدي العاملة، وليس فيه فرص عملٍ كافيةٍ, لا بدّ لمسؤوليه من اتّخاذ تدابير لازمة لرفع هذه المشكلة، وإلا ستسود فيه البطالة، وربّما يكسب البعض فيه دخلاً من دون أيّ جهدٍ اقتصاديٍّ، من طرقٍ غير مشروعةٍ، وبالتالي سيتعرّض لأزماتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ مدمّرةٍ، وتسوده خلُقيّاتٌ منحرفةٌ. يقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد: “وَكانَ النّاسُ أيضاً يَصِيرُونَ بِالفَراغِ إلى غايَةِ الأشَرِ وَالبَطَرِ, حَتَّى يَكثُرَ الفَسادُ، وَيَظهَرُ الفَواحِشُ”40.
39- مبانى اقتصاد اسلامى (باللغة الفارسيّة)، ص201-202.
40- الجعفي، التوحيد، م.س، ص72.
لذلك، فإنّ تطبيق التعاليم الدينيّة في مجال العمل يُعدّ أساساً لسلامة المجتمع، وبه يحظى الإنسان بحياةٍ مثاليّةٍ، فضلاً عن تطوّره اقتصاديّاً. فطيب العيش، وهناءته، والطمأنينة فيه, أمورٌ لا تتحقّق إلا عبر مزاولة الأعمال التي تُعدّ مصدراً أساسيّاً لتلاحم أبناء المجتمع، وانسجامهم، وأُلفتهم. فرواج العمل في كلّ مجتمعٍ، من شأنه توفير خدماتٍ لجميع عضائه، وزرع البهجة في نفوسهم.
وفي النتيجة: إنّ العمل أمرٌ ضروريٌّ لجميع أبناء المجتمع، كما روي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: “لَيسَ لِلنّاسِ بُدٌّ مِنْ طَلَبِ مَعاشِهِمْ، فَلا تَدَعْ الطَّلَبَ”41. وكلمة (الناس) في هذا الحديث ذات معنىً شاملٍ. والمقصود أنّ جميع أبناء المجتمع مكلّفين بالسعي في تأمين متطلّبات معيشتهم، وإلا فإنّ الحياة من دون عملٍ ليست ممكنة42.
ومن البديهيّ أنّ الإنسان الذي يفتقد المنهج الصحيح وحُسن التدبير في حياته, سوف لا يتسنّى له الحصول على عملٍ مناسبٍ، بل قد يفقد عمله. لذا، يجب اتّخاذ التدابير اللازمة من قِبَل مختلف المجتمعات والمؤسّسات, بغية اجتثاث جذور
41- العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج17، أبواب مقدّمات التجارة، باب استحباب الاستعانة…، ح11، ص32.
42- الحكيمي، معيارهاى اقتصاد تعاليم رضوى(باللغة الفارسية)، م.س، ص230.
البطالة وأضرارها المتجسّدة, بالفقر والانحراف43.
4- إهدار المال:
إنّ مفهوم إهدار المال يشمل كلّ عملٍ يُتلِف المال ويتسبَّب في ضياعه، مثل: الإسراف، والاستهلاك المُفرِط، والجهل بأُسس الإنفاق، واستغلال الثروة، والتقصير، واللامبالاة في إنفاق المال، وفقدان
الإشراف الصحيح على إنفاق المال، وسوء التدبير في تسخير الأموال بشكلٍ عامٍّ.
ومهما كان السبب في إهدار الأموال, فإنّ نتيجته واحدة, ألا وهي: إتلاف الثّروة. وبالتالي عدم القدرة على أداء الواجبات العائليّة والاجتماعيّة. وقد يؤدّي كذلك إلى تلكّؤ مسيرة الرقيّ المعنوي للإنسان, لأنّ
المسيرة المعنويّة للعبد في الدنيا مرهونةٌ بتوافر السبُل المادّيّة، والظروف المعيشيّة المناسبة، التي تعطيه النشاط الضروريّ للعبادة. وبالطبع، فإنّ هذه الأمور يمكن تحقيقها من خلال المال. ولذلك اعتبر
القرآن الكريم المالَ بأنّه سببٌ لتقويم حياة البشر، حيث قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾44. كما أنّ الأحاديث الشريفة – بدورها
43- من المؤكّد أنّ توفير فرص عملٍ وبرامج معيشيّةٍ شاملةٍ يقع على عاتق الحكومة، ولكن في الأطر المعيشيّة المحدودة يجب على الإنسان أن يهيّئ لنفسه عملاً, ليتخلّص من البطالة.
44- النساء: 5
– تؤكّد أنّ توفير سبُل المعيشة ضرورة من ضرورات الحياة45، وعدّت إهدار الأموال أمراً بغيضاً. فعن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام :”إِنَّ اللهَ يُبغِضُ القِيلَ وَالقالَ، وَإِضاعَةَ المالِ، وَكَثرَةَ السُّؤالِ”46.
إذن، إذا لم يكن هناك برنامجٌ معيشيٌّ صحيحٌ، وحُسن تدبيرٍ في الأمور الاقتصاديّة, فسوف تتزلزل المعاملات الماليّة، وقد يتعرّض البعض إلى الغبن، وربّما يكون ذلك سبباً لإتلاف المال، وإهدار ثروات المجتمع. وهذا الأمر مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً.
45- انظر: الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، ص65-89.
46- الحرّاني، تحف العقول، م.س، ص443.
المصدر: متابعات.