بقلم الدكتور / جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
ان الحرية التي اودعها الله سبحانه، الإنسان، تمده بطاقات عظيمة، تمكنه من أقلمة حياته في أية بيئة ينتقل إليها، مهما كانت مميزاتها الطبيعية والقانونية والاخلاقية، وقد يجد في نفسه ـ في البداية ـ بعض الصعوبات التي تعيقه عن تحمل الجديد، ولكنه سرعان ما يجد نفسه قد انقادت إلى ما تعاقدت عليه الجماعة سواء ابت أم رضيت، مما يعني ان بإمكان الفرد ان يتحكم في ارادته ويعود نفسه على نمط معين من العيش إذا ما اراد لذلك، بترويضها، وجعل ما تشتهيه، أو ما تسول به له، تحت سلطان العقل، الذي هو بمثابة الكابح والمنظم لكل الشهوات كي تتناسب والقانون الاجتماعي للوسط الذي يعيش فيه، وقد جاء في الذكر الحكيم من الآيات التي تؤيد القول بمقدرة الإنسان على ترويض نفسه والتحكم في الحد من شهواتها([1])، كما في قوله تعالى:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}([2]). فالغيظ وهو «درجة متعاظمة من الغضب»([3]) يمكن للإنسان إذا ما غلب عقله على عاطفته ان يطفئ ثائرته ويقبرها داخل نفسه بردعها وتصبيرها وتهوين الوقع عليها، لذلك فإن قوة الإنسان الحقيقية ـ من وجهة نظر الإسلام ان يتمكن من التصدي لرغباته، وجعلها في المستوى المعقول الذي أراده الله لها فإن «خير الأمور اوسطها»([4]). ويفهم مما أثر عن الرسول صلى الله عليه وآله، ان ليست الشجاعة في قوة الجسم والبطش، ولكن الشجاعة الحقة تكمن في القدرة الفائقة على التحكم في النفس وكبح جماحها([5]) لترضخ لنداء العقل وتستجيب للوازع الأخلاقي الذي يهيء لها جو التعايش ضمن المجتمع باتزان. وبشأن ترويض النفس ـ كما يبدو في فكر علي عليه السلام ـ يقف سائلاً إياها «متى اشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي: لو عفوت؟»([6]) وهنا تنتابنا فكرة الصبر الاجباري، والعفو الاختياري، إذ في كلا الموقفين يتجلى صراع العاطفة والعقل، وفي كلا الموقفين يتضح الترويض النفسي، ولكن الترويض في حالة الاجبار والقسرة لا يكون انتصاراً ولكنه انكسار ينكبت في الاعماق، ويتحول إلى شهوة في الانتقام حال الشعور بالقوة، اما في حالة العفو الاختياري، فيشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة بنزع شهوة الانتقام من النفس تلقائياً لا عن طريق الضغط الخارجي وبهذا يتمكن الإنسان من تعويد نفسه على ما يطابق الخير والواقع في آن واحد. وقد تبنى علي عليه السلام، ومن منطلق قوة الاختيار الثاني، فهو الخليفة الذي تجرى بين يديه ثروات الدولة الإسلامية يقول مقسماً «وأيم الله ـ يمينا أستثنني فيها بمشيئة الله ـ لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص، إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينهما»([7])، وهو حين يعاهد نفسه على ترويضها، لا يقصد تجويعها أو ايذاءها، ولكن الرياضة في مثل موقفه ذاك مسؤولية تجاه من ولي امرهم من الفقراء والمستضعفين، حين يرى ان من الواجب عليه ان لا يقنع بالمنصب دون ان يشارك جميع طبقات الأمة آلامهم، فالجوع هنا جانب من الجوانب الخلقية التي ارتضاها لنفسه في محاولة منه لترويض نفوس الطبقات الفقيرة حتى يتمكن من تعديل حالهم، لذلك نجده في كثير من وصاياه، وحكمه([8])، يحض على الترويض النفسي، منه قوله «من كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ»([9]) فالواعظ المنطلق من داخل النفس ذاتها يجنبها كل المداحض والمزالق وضمن وصيته لابنه الحسن عليه السلام يقول «اخي قلبك بالموعظة، وامته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة… ومرارة اليأس خير من الطلب من الناس، والحرقة مع العفة خير من الغنى مع الفجور…»([10]) فالخير كامن في اعماق الإنسان وإثارته فيه لا يكفي مالم تروض النفس عليه بإظهار كفعل وتصرف، وان احتاج إلى مشقة وجهد، فبالتكرار يستحيل إلى عادة وينغرس كجبلة، يتوق الإنسان إلى مزاولتها كلما عاش نشوة مردودها في نفسه وفي الناس، فيستحيل الفعل إلى قدرة يتمثلها الناس في تصرفاتهم وافعالهم).
الهوامش:
([1]) كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ونهي النفس ردعها وترويضها، النازعات /40، 41.
([2]) ال عمران /134.
([3]) معجم علم النفس ص 94.
([4]) من حديث شريف رواه الراغب الاصفهاني ـ محاضرات الأدباء 1/449.
([5]) راجع قول الرسول صلى الله عليه وآله «ليس الشديد… الحديث»كنز العمال 3/521.
([6]) حكم ـ 192.
([7]) رسائل 45 فقرة 5. وتهش: أي تنبسط وتفرح من شدة الحرمان، ومطعوماً حال من القرص أي مأكولا، ومأدوماً، حال من الملح: أي ما يؤدم به القرص، لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها: أي لأتركن عيني مثل عين غار معينها أي ماؤها الجاري، ويقول محمد عبده: «اي ابكي حتى لا تبقى دمع»شرح النهج ص 509 الاندلسي ـ ونحن لا نتفق معه في ذلك لعدم اتفاق السياق مع ما رمى إليه، ونعتقد ان علياً عليه السلام قد اراد بالقول: استفراغ كلما في العين من نظرات الطمع والقناعة بأقل القليل.
([8]) راجع خطب 75، 82 فقرة 8، 86 الفقرة الأولى، وايضا شرح ابن أبي الحديد 20/ 258 حكمة رقم 25، و ص 296 حكمة رقم 382.
([9]) حكم ـ 97.
([10]) رسائل 31، فقرة 22، 4.