دينية

صبرٌ ونصر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ومراجعنا وقادتنا العظام، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التبريك بذكرى ولادة ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).

ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في سبطه الإمام المجتبى (عليه السلام): «اللهمّ، إنّ هذا ابني، وأنا أحبّه، فأحبَّه وأحبَّ مَن يحبّه»[1].

وُلِد الإمام الحسن (عليه السلام) في النصف من شهر رمضان المبارك، في السنة الثالثة للهجرة، وكان أوّل مولود في بيت عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، فاستقبله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بحفاوة، وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وسمّاه الحسن، ولم يكن اسمه معروفاً في الجاهليّة، بل جاء من وحي السماء.

نشأ الإمام (عليه السلام) في كنف جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله)، وتربّى في مدرسة الوحي، فكان مثالاً وقدوةً في التقوى، والعلم، والحلم، والجود، والشجاعة، وفيه يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «هو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي؛ مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي»[2].

أيّها الأحبّة، لقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) عنواناً للصبر في حياته كلّها، منذ طفولته وحتّى شهادته. وقد واجه في حياته ظروفاً صعبة، ومؤامرات خطيرة، كادت تودي بحياة العترة الطاهرة، وتقضي على الإسلام المحمّديّ الأصيل، لكنّه (عليه السلام) جاهد على طريق الحقّ، وقاد المرحلة بصبر عظيم وحكمةٍ بالغة، وعمل لما فيه صلاح الأمّة وحفظ دين جدّه (صلّى الله عليه وآله).

وقد تجلّى صبره بأبهى صوره بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث تولّى الخلافة، لكنّ المجتمع آنذاك كان قد تمزّق بسبب الفتن والأهواء، وضعُف إيمان الأمّة واستمالتهم الدنيا.

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) عن هذه المرحلة، فيقول: «إنّ عهد الإمام المجتبى (عليه السلام) وواقعة الصلح مع معاوية -ما سُمّي بالصلح- حدث مصيريّ وفريد على مدى مسيرة النهضة الإسلاميّة في الصدر الأوّل، فنحن لم نشهد نظيراً لهذه الواقعة»[3].

ومن مظاهر صبره (عليه السلام):

الصبر على الخيانة والغدر
فقد خانه كثير من أصحابه، وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السرّ، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن (عليه السلام) إليه عند دنوّهم من عسكره أو الفتك به[4].

ولقد كان من أخطر هذه الخيانات فرار عبيد الله بن العبّاس، وانضمامه إلى معاوية، وهو قائد جيش الإمام (عليه السلام)، وكان قد أمره بالتوجّه إلى مسكن لمواجهة جيش الشام، لكن عندما وصلت رسائل معاوية إليه، عرض عليه ألف ألف درهم (مليون درهم) على أن يترك المعسكر، فأُغري بالمال، وهرب في الليل إلى معاوية، ومعه ثمانية آلاف من الجنود![5]

الصبر على صلح اضطراريّ
وحين رأى الإمام الحسن (عليه السلام) تخلّف الأمّة عن نصرته، وأنّ الخيانة قد تفشّت في جيشه، وأنّ الظروف آنذاك لن تنتهي بالغلبة على معاوية في حربه، بل إنّ استمرارَها كان سيقضي على وجود آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ولن يبقى مَن يحفظ التيّار القيميّ الأصيل للإسلام، قرّر الصلح مع معاوية، برغم أنّ ذلك القرار كان مرّاً وصعباً على شيعته، لكنّه اختار مصلحة الإسلام.

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في هذا الشأن: «فلو كان الإمام المجتبى (عليه السلام) قد قرّر الاستمرار في الحرب ضدّ معاوية، وانتهت (الحرب) باستشهاد آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لكان الإمام الحسين (عليه السلام) قُتِل في تلك الحادثة نفسها، ولحصل الشيء نفسه لكبار الأصحاب، أمثال حجر بن عُديّ، ولكان مات الجميع، وما بقي من يستفيد من الفرصة للمحافظة على الإسلام بإطاره القيميّ؛ فقد كان للإمام المجتبى (عليه السلام) حقٌّ عظيم على بقاء الإسلام»[6].

الصبر على الشتم والأذى
وإنّ من أشدّ مظاهر الظلم والأذى التي تعرّض لها الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) السبّ العلنيّ على المنابر، والذي كان جزءاً من سياسة ممنهجة، بدأها معاوية بن أبي سفيان بعد الصلح، حيث جعل سبّ أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) سنّة رسميّة في الدولة الأمويّة.

وقد رُوي أنّ شاميّاً رأى الإمام (عليه السلام) راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ، أقبل الحسن عليه، وضحك، وقال: «أيّها الشيخ، أظنُّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكت رحلَك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعودَ عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً»، فلمّا سمع الرجلُ كلامَه بكى، ثمّ قال: أشهد أنَّك خليفةُ الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنتَ أنت وأبوك أبغضَ خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحلَهُ إليه، وكان ضيفَهُ إلى أن ارتحل، وصار مُعتقِداً لمحبّتهم[7].

كما تعرّض الإمام الحسن لمحاولة الاغتيال؛ إذ إنّه «أراد (عليه السلام) أن يمتحن أصحابَه، ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له، ليتميّز بذلك أولياؤه من أعدائه… فأمر أن يُنادى في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر، فخطبهم… قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترَونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه والله يريد أن يصالح معاوية، ويسلّم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل، ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه، حتّى أخذوا مصلّاه من تحته، ثمّ شدّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزديّ، فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالساً متقلِّداً السيف بغير رداء!

ثمّ دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا منه مَن أراده… فلمّا مرّ في مظلم ساباط، بَدَرَ إليه رجلٌ من بني أسد، يُقال له: الجرّاح بن سنان، فأخذ بلجام بغلته، وبيده مغول[8]، وقال: الله أكبر، أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ثمّ طعنه في فخذه، فشقّه حتّى بلغ العظم…»[9].

وعلى الرغم من أنّ الإمام (عليه السلام) قد حفظ الشيعة، وحفظ الإسلام، بما أقدم عليه من الصلح، وإنْ لم يكن راغباً به، فقد قام الجاهلون ممّن لا يملكون الوعي والبصيرة بالتجرّؤ عليه، واتّهامه بإذلال المؤمنين المتحمّسين لقتال معاوية، وبأنّه استسلم له، حتّى أنّ بعضَهم كان يُسلّم عليه قائلاً: السلام عليك يا مُذلّ المؤمنين[10]! بينما كان الإمام (عليه السلام) يبيّن لهم حقيقة الأمر، ويجيبهم بهذه الآية: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[11]، والّتي تشير إلى أنّ ما جرى إنّما هو امتحانٌ لكم، ومتاعٌ محدود لمعاوية.

لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) يردّ الإساءة بالإساءة، بل كان يواجهها بالحلم والصفح، امتثالاً لأخلاق جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهذا يثبت أنّ صبره كان موقفاً قويّاً نابعاً من بصيرته العميقة وعلمه الواقعيّ بحقائق الأمور.

عباد الله، لا بدّ لنا من أن نتأمل في ما حصل مع الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد كان بعض الناس يظنّون أنّه تنازل لمعاوية، ولكنّ الحقيقة أنّ الإمام حفظ الإسلام، وصبر على الجور والظلم لكي لا تُراق دماء الأبرياء، ويُقضى على العترة كلّها وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام).

لقد علّمنا الإمام الحسن (عليه السلام) أنّ الصبر ليس ضعفاً، بل قوّة، وأنّ النصر لا يكون دائماً بالغلبة العسكريّة، بل ببقاء الإسلام وحفظه، وإلى عظمة هذا الأمر يشير الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: «والله، لَلَّذي صنعه الحسن بن عليّ (عليهما السلام) كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس»[12].

[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج1، ص36.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص176.
[3]  الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص127.
[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص12.
[5]  راجع: اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص214.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/04/1990م.
[7] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص184.
[8] سيف دقيق له قفا، يكون غمده كالسوط.
[9] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص12.
[10] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص308.
[11] سورة الأنبياء، الآية 111.
[12]الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8،ص 330

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock