دينية

نور روح اللّه: من آداب الاستعاذة(1)  

قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل: 98-100).

من الآداب المهمّة للقراءة، وخصوصاً القراءة في الصلاة التي هي السفر الروحانيّ إلى الله والمعراج الحقيقيّ ومرقاة وصول أهل الله، الاستعاذة من الشيطان الرجيم، الذي هو شوكة طريق المعرفة، ومانع السير والسلوك إلى الله، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوله في سورة الأعراف المباركة، حيث قال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف: 16)،فإنّه أقسم أن يسدّ الطريق على أولاد آدم ويمنعهم عنه.

•الأمان من شرّ إبليس
في الصلاة التي هي الصراط المستقيم الإنسانيّ ومعراج الوصول إلى الله، لا يتحقّق الوصول من دون الاستعاذة من قاطع الطريق هذا، ولا يحصل الأمان من شرّه من دون الاستعاذة بحصن الألوهيّة الحصين. ولا تتحقّق هذه الاستعاذة بلقلقة اللسان، وحضور الصورة بلا روح، والدنيا بلا آخرة، كما هو مشهود في أشخاص قالوا بهذا القول منذ أربعين أو خمسين سنة، وما نجوا من شرّ قاطع الطريق هذا، ويتّبعون الشيطان في الأخلاق والأعمال، بل في العقائد القلبيّة أيضاً. ولو كنّا مستعيذين من شرّ هذا الخبيث بالذات المقدّسة للحقّ تعالى، وهو الفيّاض المطلق، وصاحب الرحمة الواسعة والقدرة الكاملة والعلم المحيط والكرم البسيط، لأعاذنا الله، ولصلح إيماننا وأخلاقنا وأعمالنا.

فلا بدّ أن نفهم أن التأخّر عن هذا السير الملكوتيّ والسلوك الإلهيّ؛ بسبب إغواء الشيطان والوقوع تحت السلطنة الشيطانيّة، هو من قصور أنفسنا أو من تقصيرنا، حيث لم نقم بآدابه المعنويّة وشرائطه القلبيّة، كما إنّ عدم نيلنا في جميع الأذكار والأوراد والعبادات نتائجها الروحيّة والآثار الظاهريّة والباطنيّة، فهو من أجل هذه المسألة الدقيقة.

•الإخلاص أوّل آداب الاستعاذة
يُستفاد من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة للمعصومين عليهم السلام آداب كثيرة، ونكتفي بذكر بعضها، فمن مهمّات آداب الاستعاذة الإخلاص، وهو كما حكاه سبحانه عن الشيطان أنّه قال:﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: 82-83).وهذا الإخلاص، كما يظهر من الآية الكريمة الشريفة، أعلى من الإخلاص العمليّ، وأعمّ من العمل الجوانحيّ أو العمل الجوارحيّ؛ لأنّ المُخلَص هنا بصيغة المفعول، ولو كان المقصود هو الإخلاص العمليّ، لكان التعبير بصيغة الفاعل (أي مُخلِص). فالمقصود من هذا الإخلاص هو خلوص الهويّة الإنسانيّة بجميع شؤونها الغيبيّة والظاهريّة، والإخلاص العمليّ من رشحاته.

وهذه الحقيقة واللطيفة الإلهيّة، وإن كانت لا تحصل للعامّة في ابتداء السلوك إلّا بالرياضات العمليّة الشديدة، وخصوصاً القلبيّة منها التي هي أصلها، كما أُشير إليه في الحديث المشهور: “مَن أخلص لله أربعين صباحاً، جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”(1)، فمن أخلص أربعين صباحاً نفسه لله، وأخلص أعماله القلبيّة والقالبيّة للحقّ تعالى، يصبح قلبه إلهيّاً، ولا ينفجر من القلب الإلهيّ سوى عيون الحكمة، فيكون لسانه الذي هو أكبر ترجمان للقلب ناطقاً بالحكمة.

ففي أوّل الأمر، يكون إخلاص العمل موجباً لخلوص القلب، فإذا صار القلب خالصاً، تظهر على مرآة القلب أنوار الجلال والجمال التي أودعت بالتخمير الإلهيّ في طينة آدم، وتتجلّى وتسري من باطن القلب إلى ظاهر ملك البدن.

•خلوص هويّة الروح
وبالجملة، فإنّ الخلوص الذي يوجب الخروج من تحت السلطنة الشيطانيّة، هو خلوص هويّة الروح وباطن القلب لله تعالى.

ويشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الخلوص في المناجاة الشعبانيّة: “إلهي، هب لي كمال الانقطاع إليك”. فإذا وصل القلب إلى هذه المرتبة من الإخلاص، وانقطع بالكامل عمّا سوى الله، ولا يكون في مملكة وجوده غير طريق الحقّ، يقبله الحقّ تعالى في معاذه، ويقع في الحصن الحصين للألوهيّة، كما قال تعالى في الحديث القدسيّ: “كلمة لا إله إلّا الله حصني، فمن دخل في حصني أمن من عذابي”(2)، وللدخول في حصن لا إله إلا الله مراتب، كما أنّ للأمن من العذاب أيضاً مراتب.

فمن وقع بباطنه وظاهره وقلبه وقالبه في حصن الحقّ، وصار في معاذه، فقد أَمِنَ من جميع مراتب العذاب، وأعلى مراتبها عذاب الاحتجاب عن جمال الحقّ، والفراق عن وصال المحبوب جلّ جلاله. فمن حصل له هذا المقام، فهو عبد الله على الحقيقة، ويقع تحت قباب الربوبيّة، ويكون الحقّ تعالى متصرّفاً في مملكته، ويخرج عن تحت ولاية الطاغوت.

وتتمّة آداب الاستعاذة في العدد المقبل بمشيئة الله.

(*) من كتاب الآداب المعنوية للصلاة، المصباح الثاني – الفصل الثاني – بتصرّف.
1.مستدرك سفينة البحار، النمازي الشاهروديّ، ج 2، ص 357.
2.عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج 2، ص 145.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock