دينية

نور روح اللَّه‏: الابتلاء الإلهي نعمة أم نقمة؟

إن كل عمل يصدر من الإنسان، بل كل ما يقع في عالم الجسم وكان مدركاً للنفس، يترك أثراً لدى النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، من دون فرق بين أن يكون العمل من نوع اللذائذ أو نوع الآلام. وقد عُبر عن هذا الأثر في الأخبار بنقطة بيضاء ونقطة سوداء؛ مثلاً إنّ كل لذة مما يلتذ الإنسان به من المطعومات أو المشروبات أو المنكوحات وغيرها، يترك أثراً في النفس، ويحصل تعليق ومحبة في عمق الروح اتجاهه، ويزداد توجه النفس إليه، وكلما توغّل في اللذائذ والمشتهيات أكثر ازداد تعلق النفس وحبّها لهذا العالم أكثر، وغدا ركونها واعتمادها على هذا العالم أكثر، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا. وكلما كانت المتع في ذائقته أحلى، كانت جذور محبتها أكثر.

وكلما توفرت وسائل العيش والعشرة والراحة بشكل أوفى، أصبحت شجرة التعلق بالدنيا أقوى. وكلما أقبلت النفس على الدنيا أكثر، كلما كانت غفلتها عن اللّه وعالم الآخرة أكثر. كما أن نفس الإنسان إذا ركنت إلى الدنيا كلياً، وصار توجهها مادياً ودنيوياً سُلبت التوجه للّه المتعال ودار الكرامة نهائياً و(أخلد إلى الأرض واتبع هواه). فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حب الدنيا من دون اختيار، وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها، والإقبال على الملك يسبب الغفلة عن الملكوت، وكذلك العكس؛ فلو أن الإنسان استاء من شي‏ء، وأدرك غير الملائمات؛ سببت صورة ذلك الإدراك الكراهية والنفور، وكلما كانت تلك الصورة في النفس أقوى كان ذلك النفور الباطني أكثر.

فمثلاً: إذا دخل شخص إلى بلد، واُبتلي بأسقام وآلام فيه وعانى من ورائه مشاكل داخلية؛ لكرهه وتنفّر منه قهراً، وكلما كانت معاناته أكثر كان هروبه ونفوره منه أكثر. وإذا وجد مدينة أفضل منه لأقبل عليها. وإن لم يستطع التحرك نحوها، لاشتاق إليها، وتوجه قلبه نحوها. فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها وعناءها، وشعر بأن أمواج الفتن والمحن تزحف نحوه، خفّ تعلقه بها، وقل ركونه إليها، وتنفّر منها قهراً. وإذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب خالٍ من جميع أنواع الشقاء والتعاسة، ارتحل إليه قهراً. وإذا لم يتمكن من السفر بجسمه، لذهب بروحه وبعث بقلبه إلى ذلك العالم. وواضح جداً أن المفاسد الروحية والخلقية والسلوكية بأسرها تنجم عن حب الدنيا والغفلة عن الله سبحانه وعالم الآخرة، وإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. في حين أن جميع أنواع الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي تنبعث من التوجه نحو الحق ودار الكرامة، ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الركون والاعتماد على زخارفها.

إن لطف الله تبارك وتعالى وعنايته كلما كانت متعلقة بشخص أكثر، وجه إليه أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنصرف روحه عن هذه الدنيا وزخارفها وتنزجر، ويتوجه بمقدار إيمانه إلى عالم الآخرة ويتوجه قلبه إلى هناك. وإن لم تكن هناك جدوى من احتمال شدائد المحن إلا هذه الجهة لوحدها، لكفى. إن الإنسان في الدنيا هو محل للامتحان أيّاً كان، ابتداءاً من أولئك الناس العظام كالأنبياء والأولياء وحتى الآخرين أيّاً كانوا؛ فالامتحان يلازم وجود الإنسان، ولن يعيش إنسان في هذا العالم دون امتحان. ويكون الامتحان أحياناً على شكل خوف أو جوع أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات وأمثال ذلك. قد يكون الأمن موضوعاً للاختبار أحياناً، فيختبر الإنسان بالخوف وفقدان الأمن أحياناً، أو يختبر بالاستقرار والأمن. ويكون الامتحان أحياناً من خلال النقص في الثمرات والأنفس فيذهب الشباب والأخوة، ويمتحن الأطفال والنسوة من هذا الطريق، أو من خلال زيادة الثمرات أحياناً، وزيادة الأموال والتنمية وتحقيق الأمن. فلا بد من أن يمتحن الإنسان، ولا يُترك بمجرد ادعائه الإيمان. لقد تعرض الأنبياء العظام للامتحان؛ امتحن إبراهيم الخليل عليه السلام في تلك القضية المحيرة وهي أمره بأن يذبح ولده. لقد امتحن الأنبياء العظام وأولياء الله، وامتحن سيد الشهداء سلام الله عليه، وأولاده وأحفاده أيضاً، وكلنا معرضون للامتحان، وسوف يمتحن جميع البشر.

وإن الامتحان بالأمن والثروة والرئاسة وأمثال ذلك أصعب من الامتحان بالنقص في الأولاد والأنفس؛ فما أكثر الذين يدعون بأنهم أنصار للضعفاء، لكنهم يفشلون عند الامتحان!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock