فكرية

منازل رحمة الله تعالى

في حياة الإنسان ثلاثة منازل لرحمة الله تعالى:

1 ـ الفقر والحاجة.

2 ـ الدعاء والسؤال.

3 ـ السعي والعمل.

وفيما يلي شرح موجز لهذه المنازل:

المنزل الأول: الفقر والحاجة:

وهما أولا منازل رحمة الله تعالى فالفقر يستنزل رحمة الله حتى من غير أن يعي صاحب الفقر فقره إلى الله. وبين (الفقر إلى الله) و(رحمة الله) علاقة تكوينية، كلّ منهما يطلب الآخر، فالفقر إلى الله يستنزل رحمة الله، ورحمة الله

تطلب مواقعَ الحاجة والفقر. وهي سنة عامة في الكون، في كلّ موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة. فإنّ الضعف يطلب القوة، والقوة تطلب الضعف، والفقر يطلب الغنى، والغنى يطلب الفقر، والجهل يطلب العلم، والعلم يطلب الجهل، والمريض يطلب الطب، كما أن الطب يطلب المرض.

وليست حاجة العالِم إلى الجاهل ليعلّمه بأقل من حاجة الجاهل إلى العالم، ولا حاجة الطبيب إلى المريض ليداويه بأقل من حاجة المريض إلى الطبيب، ولا حاجة الأمّ إلى الطفل لتسبغ عليه حنانها وعطفها بأقل من حاجة الطفل إلى الأُمّ لتتولاّه برعايتها وعطفها.

إنّها سنّة الله في كل موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة، وهي سنة الله تعالى في علاقته بفقر عباده وعجزهم وضعفهم وحاجتهم حتى من غير سؤال وطلب ودعاء، ومن غير وعي منهم لحاجتهم وفقرهم.

إن هذه العلاقة من أسرار هذا الدين، وهي من أسرار هذا الكون وقوانينه، وما لم يفهم الإنسان هذا القانون في الكون، وفي علاقة الإنسان بالله تعالى لا يستطيع أن يدرك طائفة واسعة من معارف هذا الدين وأسراره.

وكم من مريض تماثل للشفاء برحمة الله من غير سؤال {وإذا مرضت فهو يشفين} وكم من فقير جائع رزقه الله تعالى، وأطعمه من جوع من غير سؤال ولا دعاء. وكم من مضطر في لجج البحار، أو تحت الأنقاض، أو تحت طائل السيوف أو في وسط الحريق أدركته رحمة الله تعالى وأنقذته من غير سؤال ولا دعاء. وكم من ظمآن بلغ به الظماء مبلغاً استنفد مقاومته، فأدركته رحمة الله تعالى وأروته من غير سؤال ولا طلب. وكم من إنسان واجه الأخطار، وكان قاب قوسين منها وهو يعلم أولا يعلم، فجاءه (ستر الله) فأنقذه منها. وكم من إنسان وصل إلى طريق مسدود في حياته ففتح الله تعالى عليه ألف طريق وطريق، وكل ذلك من غير سؤال ولا طلب ولا دعاء، بل دون أن يعرف صاحبُه الله كثيراً، فضلا من أن يعرفه فلا يطلب منه، وكم من رضيع تدركه رحمة الله تعالى دون أن يطلب من الله، ودون أن يسأل الله تعالى.

وقد ورد في دعاء الافتتاح: «فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها».

وورد في دعاء أيام رجب: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة».

وفي المناجاة الرّجبيّة: «ولكن عفوك قبل علمنا».

إذن الفقر والحاجة من منازل رحمة الله تعالى، وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمته تعالى.

وللعارف الروميّ الشهير بيتٌ من الشعر في هذا الباب، أذكر ترجمته هذه: لا تطلب الماء واطلب الظماء حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.

وقد وردت الإشارة إلى هذه العلاقة بين رحمة الله تعالى وحاجة عباده وفقرهم في مناجاة بليغة ومؤثرة لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، نورد فيما يلي طرفاً منها:

مولاي يا مولاي أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلاّ المولى. مولاي يا مولاي، أنت المالك، وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلاّ المالك. مولاي يا مولاي، أنت العزيز، وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلاّ العزيز. مولاي يا مولاي، أنت الخالق، وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلاّ الخالق. مولاي يا مولاي، أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلاّ القوي. مولاي يا مولاي، أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلاّ الغني. مولاي يا مولاي، أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلاّ المعطي.

فقد صمّم الله تعالى هذا الكون بموجب (الرحمة) و(الحكمة)، فإذا كانت حكمة الله تقتضي وقوع كارثة في إنسان أو حيوان أو نبات، فلا يعني ذلك أن ننفي البعد الآخر من فضل الله تعالى وصفاته الحسنى، وهو الرحمة.

مولاي يا مولاي، أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميت إلاّ الحي…..يتبع

الشيخ محمد مهدي الاصفي
من كتاب
(المنازل الثلاثة للرحمة في حياة الانسان )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock