مجتمع

الفساد الغربيّ وتنميط الحياة

د. علي عبد الله فضل الله(

عند الحديث عن “الغرب” أو الدول الغربيّة، يستحضر كثيرون “الحضارة” والتطوّر والتقدّم ورفاهيّة الحياة في تلك المجتمعات، دون أن يلتفتوا إلى أنّ ما يُصدّر إلى مجتمعاتنا وشعوبنا هو كلّ ما من شأنه أن يدمّرها على الأصعدة كافّة: الثقافيّة، والأخلاقيّة، والتربويّة… فكيف يعمل الغرب على تنميط الحياة في المجتمعات الشرقيّة والإسلاميّة؟

•تاريخ دموي
مقصودنا بـ”الغرب”، هو غرب أوروبا، ولحق به شمال القارة الأمريكيّة في القرنين الماضيين. تميّزت شعوب هذه المناطق بالقسوة الشديدة تاريخيّاً، وبالنزاعات التي لا تنتهي. حتّى في حروبهم الدينيّة، بعد تمدّد المسيحيّة إليهم، أظهروا مستوى هائلاً من الوحشيّة، على خلاف مهد المسيحيّة المشرقيّ. وبعدما انقلبوا على إرثهم الدينيّ، كانوا قساةً في كلّ شيء؛ في استباحة العالم، وفي استعباد الأفارقة، وفي نهب الشعوب، وأيضاً في ادّعاء التفوّق العرقيّ في وجه “الأعراق المتوحّشة”، كما أطلق علينا أيقونتهم “تشارلز داروين”(1)!

•وَهْم الحضارة الغربيّة
كانت حاجة الغربيّين إلى صناعة وَهْم “تحضّرهم” كبيرة بمقدار ما كان تاريخهم دمويّاً. وقد نجحوا في خداع كثير من الشعوب بذلك. يقول “غوستاف لوبون”(2) في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير): “منذ فجر الحضارة، كانت الجماهير تتأثّر بالأوهام دائماً”(3). فباعوا أوهاماً كبيرة حول حداثتهم، مستفيدين من تفوّقهم العسكريّ ونهضتهم الصناعيّة وضعف البدائل. كانت بضاعتهم ماديّةً بشكل حادّ، ولم يكونوا أوّل من يفعل ذلك، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ (الأنعام: 108).

ففي الواقع، أدّت عدم فعاليّة ردود الفعل على هيمنتهم الثقافيّة في العالم إلى ترسيخ اعتقاد الغربيّين أنّ الثقافة انتهت عندهم، وأنّ نموذجهم المعرفيّ قد انتصر. كان يكفيهم أن يُقدّم نمط حياتهم، على مستوى الأفراد والجماعات، بشكلٍ جذّاب كي ينسى باقي الناس فداحة ما فعلوا بشعوب الأرض!

•شرق بثقافة غربيّة
من هنا، نجح الغرب في تصدير بضاعته الثقافيّة للعالم، على الرغم من وضوح خطرها أو علوّ كلفتها. فسادت، مثلاً، ثقافة الاستهلاك ووهم الثراء السريع والإنفاق التفاخريّ. وبتنا نسمع، مثلاً، أنّ نصف طعام مدينة كالرياض يُرمى في النفايات، على الرغم من نهي الإسلام الشديد عن الإسراف والتبذير. وبات، مألوفاً، أن نسمع أنّ أعلى دولة في نسبة استهلاك الكحول، نسبة إلى حجمها، هي دولة الإمارات! طبعاً، هذه أرقام مؤسفة.

•الدين الإسلاميّ والممانعة
على الرغم من ذلك، يُسجّل للمسلمين أنّ لديهم أقوى نظام عقديّ يواجه هذا الغزو الثقافيّ الفاسد والمدعوم. فطوال عقود من الزمن، خرجت أصوات وبرزت جهود عظيمة لعلماء وقادة مسلمين خلقت توازناً معقولاً مع الهجمة الشرسة التي استسلمت لها شعوب أخرى. ورأينا “صامويل هنتنغتون”(4)، الاسم البارز في تمنّي صِدام البشر بعضهم ببعض، يشكو ويقول: “في الماضي، كان القادة المسلمون يخبرون شعبهم: (علينا أن نتغرّب Westernize). لكن إذا قال أيّ قائد مسلم هذا، في الربع الأخير من القرن العشرين، فسيكون حالة فرديّة”(5). هذا لم يأتِ من فراغ، بل أتى بسبب طبيعة الدين الحنيف الذي يحتوي على عناصر ممانعة متألّقة وفعّالة، لو التزم بها أغلب الناس.

•الإمام قدس سره يُحرج الغرب
كان المظهر الأشدّ سطوعاً على صدّ السيل الغربيّ المدمّر للقيم الأصيلة هو الثورة الإسلاميّة في إيران. ففي هذا البلد الكبير، وكما يصف الفيلسوف الفرنسيّ “ميشال فوكو”، “تم ترويع السكّان بـ(التنمية)، و(الإصلاح)، و(التمدين)، وكلّ مظاهر فشل النظام”(6). لكن، وبشكلٍ لا يُصدَّق، تمكّن المتديّنون، في زمن استباحة “العلمانية” لكلّ شيء دون رحمة، من إحداث انقلاب، كانت الثقافة أحد وجوهه الأكثر بروزاً. اعتلت مسرح النفوذ قامة بحجم مرجع، أهمّ صفاته العلم والثبات. كان هذا محرجاً بشكل كبير للوهم الذي تبيعه مؤسّسات الغرب للعالم، وتهديداً لقدرته على إدامة سيطرته، بالثقافة، على عقول الناس وقلوبهم.

•الإعلام والمناهج الغربيّة
مع ذلك، المعركة القيميّة هي في أوجِها، ولا يزال النمط، المروّج له غربيّاً، يلقى أفضل الاستجابات، لا سيّما بعد تطوّر وسائل التواصل، وسيطرة الغرب على مصادرها. يمكن الحديث هنا عن كثير من العناصر، نورد بعضها. على سبيل المثال: تسيطر مناهج التدريس الأمريكيّة على أغلب جامعات العالم، إذ يبدو الخروج من إطارها مستعصياً، لا سيّما في العلوم المسمّاة “إنسانيّة”.

لقد استُثمر الكثير في هذا الجانب، وليس خافياً، على المتابعين، دور أجهزة مخابرات غربيّة في دعم مدارس ونظريّات كثيرة في هذا المجال. ومن المُلاحظ، أنّ “ردّ الفعل الأوّل لأغلب من درسوا نمط التربية الغربيّة، (كان) هو شعور هائل بالدونيّة تجاه السيطرة السياسيّة للقوى الغربيّة”(7). وهذا ما نلحظه بوضوح تامّ في كثير من المنتسبين إلى ما يسمّى بالمنظمّات غير الحكوميّة NGOs ومنظّمات “المجتمع المدنيّ”. وبحسب التجربة مع هؤلاء، فهم، أساساً، غير مدركين لطبيعة الرعايات والأفكار التي يتبنّونها، ولا حتّى لمعنى كلمة “مدنيّ”، وغيرها من المصطلحات والأوهام التي يقع ضحيتها الكثيرون.

•تهديد الأسرة والمجتمعات
من أخطر الأمثلة هو التغييرات الجذريّة في مفهوم الأسرة، إذ يُدمّر، بشكلٍ منهجيّ ودؤوب، الشكل الطبيعيّ للأسرة، التي تبدأ بارتباط رجل وامرأة، كما كان البشر يفعلون لآلاف السنين.

يستحقّ هذا الأمر بحثاً مستقلّاً، وهو بحث مهمّ جدّاً، وكثير من الناس لا يلتفتون لخطورته الحقيقيّة. ليس الموضوع فقط، في بلادنا على الأقلّ، هو مهاجمة الزواج الإسلاميّ (الذي يستحقّ بجدارة وصف التمدّن والمدنيّة بالمناسبة، لأنّه قائم على شكل تعاقديّ بالإيجاب والقبول)، بل يتعدّاه إلى تطبيع ما لا يمكن للمزاج العامّ أن يقبله، إلّا بجهود خارقة. يبدؤون اليوم بالحثّ على قبول الشذوذ كشكلٍ عاديّ ينبغي الاعتراف به؛ لأنّ بعض الأشخاص لديهم ميول للجنس نفسه. وكأنّ معالجة هذه الميول تكون بتشريعها بالقانون وليس بالعيادات النفسيّة أو بمنعها، بالقانون، عندما تتحوّل إلى أفعال. بعض الناس بات يتقبّل هذا العبث الأخلاقيّ الخطير بسبب كثرة تبريره في الإعلام، وضعف المواجهة. ما هو دور القانون أساساً إذا لم يحصل ضبط الشذوذ على الصعيد المجتمعيّ؟ وإلّا، فإنّ الدعوات الأخيرة لتشريع البيدوفيليا (العلاقة مع الأطفال) ستكون مبرّرة أيضاً؛ لأنّ هناك من لديه “ميول” معيّنة! وكذلك الساديّة(8)، مثلاً، فليحصل تشريعها لأنّ هناك من يتلذّذ بالدماء! لا يستقيم هذا الكلام لأيّ عقل أصيل، وليس كلّ ميلٍ يُقبل، بل هناك طرائق عدّة للتعامل مع نزعات البشر، الطبيعيّة والمصطنعة، بالهدوء أو بالشدّة.

•الأنانيّة والنزعة الفرديّة
من الأمثلة الخطرة على نمط الحياة المستورد هي الأنانيّة، والنزعة الفرديّة. نظريّة “اللهمّ نفسي” ليست من الإسلام في شيء. ففي ديننا الجميل هناك مبادئ محوريّة على المسلم التنبّه لها. برّ الوالدين هو قاعدة أساسيّة لانتظام الحياة الطبيعيّة في المجتمع، وكذلك برّ الإخوان وصلة الرحم والجار والاهتمام بأمور المسلمين. فعلى خلاف نمط الحياة الغربيّ المدينيّ، فإنّ مجتمع المسلمين شديد الترابط، مع الاحترام التامّ للحقّ في الخصوصيّة. في الإسلام توازن رائع بين الحميميّة وخدمة الناس، وبين المساحة الخاصّة للأجساد (الستر مثالاً) والأفكار. هذا التوازن مفقود في المجتمعات الماديّة، ويتسبّب لهم بأعلى معدّلات العنف في العالم (الولايات المتّحدة)، والانتحار (الشمال الأوروبيّ)، والاغتصاب (السويد)، والطلاق (الدنمارك)، وغيرها. عندما يسافر الناس إلى بعض هذه الدول، فإنّ ما يشاهدونه هو الرفاهيّة (المموّلة من خمسة قرون استعمار) والانتظام العامّ (المشهود له، وإن بكلفة فرض قانون ونظام ضمان باهظة). أمّا أغلب الناس، فضحايا لما تصدّره هوليوود، ومنابر الإعلام والسياسة المليئة بالكذب. لن يستمرّ ذلك، فالبقاء هو للأصلح.

(*) أستاذ حوزويّ وجامعيّ.
1.تشارلز داروين: عالم طبيعة إنجليزيّ، مشهور أنّه صاحب نظريّة التطوّر التي تقول إنّ كلّ أنواع المخلوقات الحيّة من أصل واحد.
2.غوستاف لوبون: طبيب وفيلسوف ومؤرّخ فرنسيّ، كان مهتمّاً بالحضارة الشرقيّة، وكتب في علم الآثار وعلم الأنتروبولوجيا.
3.غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، تر: أحمد حايك، الرافدين، بيروت، 2020، ص: 144.
4.صامويل هنتنغتون: عالم وسياسيّ أمريكيّ، بروفسور في جامعة هارفارد لـ58 عاماً، ومفكّر ومحافظ، وصاحب نظريّة “صدام الحضارات” الهدّامة.
5.Samuel Huntington, The Clash of Civilizations and the Remarking of World Order, Touchstone, New York, 1996, 213.
6.Michel Foucault, Religion and Culture. Routledge, New York, 1999, 132.
7.Sachiko Murata & William Chittich, The Vision of Islam, Paragon House, New York, 1994, 331.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock