دينيةمقالات

هل توجد آثار للذنوب في البرزخ؟

للذنوب التي يرتكبها الإنسان أثار في عالم البرزخ يمكن التعرف إليها من نصوص الوحي التي كشفت لنا جانباً من حجب ذلك الغيب. ومن هذه الآثار:
1- سكرات الموت وشدّة النزع:
قال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾[1].
سكرات الموت من العقبات الصعبة، فشدائدها تحيط بالمحتضر من جميع الجهات، فمن جهةٍ يواجه شدّة المرض والوجع وذهاب القوى من البدن، ومن جهةٍ أخرى يواجه مشهد العائلة من بكاء وعويل ووداع أحبّة، ومن جهةٍ ثالثة فراق ما جمع في عالم الدُّنيا من مالٍ وأملاكٍ وغير ذلك، ومن جهةٍ رابعةٍ يواجه قدومه على نشأةٍ هي غير هذه النشأة، ثمّ إنّ عينيه تريان أشياء لم ترياها من قبل، وقد اجتمع عليه إبليس وأعوانه ليوقعوه في الشكّ، وهم يحاولون جاهدين أن يسلبوه إيمانه، ليخرج من الدُّنيا بلا إيمان، هذا كلّه إلى جانب هول حضور ملك الموت، وبأيّ صورةٍ وهيئةٍ سيأتي، وبأيّ نحوٍ سوف يَقبض روحه[2].
فملك الموت عزرائيل عليه السلام لا يأتي بصورةٍ واحدةٍ لكلِّ النَّاس، فالصورة إمّا قبيحةٌ وإمّا جميلةٌ. بل إنّ شدّة قُبح صورته، أو شدّة جمالها مرتبطةٌ بأعمال الإنسان في الدنيا، فإذا كانت أعماله صالحةً أتاه الملك بصورةٍ جميلة، وإذا كان مبتلىً بالرذائل والمعاصي أتاه الملك بصورةٍ قبيحةٍ، يقول الإمام الخميني قدس سره: “إنّ لكلّ من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورةً باطنيةً ملكوتيةً وأثراً في قلب العابد، أمّا الصورة الباطنية فهي التي تعمر العوالم البرزخية والجنّة الجسمانية، لأنّ أرض الجنّة قاع خاليةٌ من كلّ شيء، وإنّ الأذكار والأعمال موادّ إنشاء وبناء لها”[3].
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “ما من الشِّيعة عبدٌ يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّة تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته”[4].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشبِّه فيه الموت بالمصفاة، فيقول: “الموت هو المصفاة تصفّي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، وتصفّي الكافرين من حسناتهم، فيكون آخر لذّةٍ أو راحةٍ تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم”[5].
وعليه فإنّ قبض روح الإنسان شدةً أو ضعفاً، وصورة الملك قُبحاً وحسناً مرتبط بطبيعة الأعمال في نشأة الدُّنيا، والتي تظهر آثارها البرزخية من لحظة النّزع، وتستمرّ في كلّ عقبات البرزخ، فالإنسان لحظة سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها.
2- وحشة القبر وغربته:
كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد بن أبي بكر: “يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته”‏[6].
وحشة القبر هي أول المنازل التي يمرّ بها الإنسان، وقد عُبّر عنها في الروايات بتعبيرات متعدِّدة، وهذه التعبيرات إمّا أهوال مستقلّة بذاتها، أو تعبّر عن وحشة القبر لكن بألفاظ متعدِّدة، من قبيل:
– غمّ القبر.
– ضيق القبر.
– ظلمة القبر.
– وحشة القبر[7].
وإنّ لهذا المنزل أهوالاً عظيمة ومنازل ضيّقة ومهولة، يصعب تصوّرها على العقل البشريّ، ولذا شرحها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
تبدأ المنازل بوحشة القبر، فضغطة القبر، ثمّ المسألة في القبر وهكذا. ونحن نذكر هذه الأمور باختصارٍ شديدٍ للفت النَّظر إلى علاقتها بطبيعة الأعمال في عالم الدُّنيا، فالذّنوب والمعاصي تظهر آثارها في ذلك العالم.
وما يؤيّد هذا الأمر (أهوال القبر) ما ورد في الروايات من استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأن للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة، ليأخذ أهبّته، ثم يقدّمه إلى شفير القبر”[8].
وليست الوحشة حال جميع النَّاس لزاماً، بل هناك فئةٌ من النَّاس يؤمنُها الله منها، كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: “اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين… وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين…”[9].
هذا الدُّعاء – وغيره من الرّوايات – يدلّ على التَّرغيب في فعل ما يُزيلُ وحشةَ القبر، وما تستأنس به النُّفوس، وهي الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة، وذلك لما روي من أنّهما يظهران بصورةٍ حسنةٍ في القبر، وهكذا الأعمال السيّئة تؤدّي إلى وحشة القبر وشدّة أهواله. روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “… فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت أحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، قال عليه السلام: فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنّة، قال: ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قطّ أحسن منك! فيقول: أنا رأيك[10] الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله…”[11].
مآب المذنبين – بتصرّف، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة ق، الآية 19.
[2] راجع: الشيخ عباس القمي، منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، تعريب وتحقيق: السيد ياسين الموسوي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، محرم الحرام 1419، ط 1، ص107 (بتصرف).
[3] الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص470.
[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص157.
[5] م.ن، ج6، ص153.
[6] م.ن، ج6، ص218.
[7] الطوسي، محمد بن الحسن‏، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، بيروت‏، نشر مؤسسة فقه الشيعة، 1411 هـ.، ط 1‏،ص562.
[8] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170.
[9] الإمام زين العابدين عليه السلام،الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج91، ص123.
[10] الرأي: يعني الاعتقاد والإيمان.
[11] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص130.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock