مجتمعمقالات

صلاة الصبح: القرآن المشهود

تتوجّه هذه المقالة بالحديث إلى المؤمن، الملتزم بأداء الفرائض، الذي يعتقد أنّ الربّ تعالى حكيم لا يوجب عليه فريضة إلّا تحصيلاً لما ينفعه أو دفعاً لما يضرّه، باعتباره محيطاً بحاجاته الماديّة منها والروحيّة، عليماً بما يصلح عليه أمره، الأمر الذي لا يدعوه إلى البحث عن علّة هذا الحكم أو ذاك، بل يتعبَّد الله به انطلاقاً من ذلك اليقين بحكمة الله، وكمال تدبيره، ومراعاته لحاجات وخصوصيّات المخلوق، ورحمته به.

* الصلاة حاجة إنسانيّة
ولأنّ الإنسان محتاج إلى الارتباط بخالقه ومبدعه ومبدئه ومنتهاه، جاءت الصلوات لتواكب هذه الحاجة وتغذّيها وتعمّق هذا الارتباط في وجوده وتحدّد أوقاته التي تتلاءم مع احتياجاته الروحيّة اليوميّة، فكانت الصلوات الخمس التي تبدأ مطلع النهار وتنتهي بنهايته، كحاجة البدن إلى الطعام التي تبدأ مطلع النهار وتنتهي بنهايته.

* صلاة الصبح: فوائد عدّة
احتلّت صلاة الصبح مكانة هامّة بين الصلوات الخمس نظراً إلى أهميّة الصباح في اليوم، حيث يودّع الإنسان السكن في الليل لينشط في أعماله نحو غاياته في النهار. وقد بذل علماء الطبّ جهوداً كثيرة للتعرّف إلى فوائد النهوض المبكر قبل طلوع الشمس والآثار الإيجابيّة التي يتركها على بدن الإنسان، ومنها:

1- إنّ أعلى نسبة للكورتيزون في الدم تكون وقت الصباح. والكورتيزون هو فئة من الهرمونات المنشّطة التي تزيد فعاليّة الجسم وتزيد منسوب السكر في الدم الذي يزوِّد الجسم بالطاقة اللازمة.

2- إنّ الاستيقاظ المبكر يعتبر من أهمّ عوامل الوقاية من ترسّب المواد الدهنيّة في شرايين القلب التي تسبِّبها إطالة النوم.

3- إنّ أشعة الشمس عند الشروق تكون قريبة إلى اللون الأحمر، وهو بالغ التأثير على أعصاب الإنسان فيبعثه على اليقظة والحركة.

4- إنّ نسبة الأشعة فوق البنفسجية تكون أكبر عند الشروق، وهي تحرّض الجلد على صنع فيتامين (D) اللازم لنموّ الجسم.

وثبت لهم أنّ غاز الأوزون -وهو أحد نظائر الأكسجين الموجود في طبقات الجوّ العليا لحماية الأرض من الإشعاعات الضارّة- ينزل إلى الطبقات الدنيا الملامسة لسطح الأرض عند الفجر ثم يرتفع مع شروق الشمس. وقد دهش الأطباء لآثاره العلاجيّة؛ إذ إنه يشفي من كثير من الأمراض النفسيّة والجسديّة، وله تأثير مفيد على الجهاز العصبيّ، كما إنّه منشّط للعمل الفكريّ والعضليّ، ويشعر الإنسان بسعادة كبيرة. ولهذا يشعر الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر المسمّى بريح الصبا بلذّة ونشوة لا شبيه لهما في أيّ ساعة من الساعات.

* ميقات قَسَم
هذا المقطع من اليوم، هو مقطع كبير الأهميّة لجميع الكائنات، ففيه تنهض من سباتها، وتبدأ السعي نحو غاياتها، لذا نرى الطيور والحيوانات وهي تنشط فيه في طلب رزقها. ولعلّ أهم ظاهرة نسمع بها في الفجر، بل في أوقات الصلاة كلّها، هي صياح الدِيَكَة المؤذّن ببداية نهار جديد وبانتصافه حين زوال الشمس، وانتهائه حين غيابها.

وتأكيداً من الله تعالى على أهمية الفجر نراه سبحانه يقسم به بقوله: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ (الفجر: 1-5). فالليل يسير من الظلمة حتّى انبلاج النور حين الفجر؛ ما يؤذن ببداية يوم جديد ونشاط متجدّد. وليس من شك في أنّ خير الأيام يومٌ يبدؤه الإنسان بطاعة الله واستمداد العون منه.

* بركات أداء الصلاة في وقتها
يكشف لنا الناطق بالوحي رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عن واحد من أهمّ آثار أداء الصلوات الخمس في أوقاتها من غير تأخير، يتمثّل هذا الأثر في التحرّز من الشيطان والامتناع من التأثّر به وبما يسوِّل ويوسوس، فعن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال الشيطان هائباً لابن آدم، ذعراً منه، ما صلّى الصلوات الخمس لوقتهنّ، فإذا ضيعهنّ اجترأ عليه فأدخله في العظائم”(1).

كما تكشف الروايات الشريفة أنّ أبواب السماء تفتح في مواقيت الصلاة كي يتلقّى الملائكة أعمال الإنسان، ولعلّ في ذلك تنبيهاً على الأثر الكبير الذي تتركه الصلاة في نفس المصلّي من حيث الخشوع والإقبال على الله، فعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: “إذا دخل وقت الصلاة فُتحت أبواب السماء لصعود الأعمال، فما أحبّ أن يصعد عمل أوّل من عملي، ولا يكتب في الصحيفة أحد أوّل منّي”(2).

إنّ كلّ ما تقدّم ينطبق على جميع الصلوات ولا يختصّ بواحدة دون أخرى، فلكلّ صلاة وقتها، ولكلّ وقت علّته وحكمته وأسراره وبركاته وآثاره.

* قرآن الفجر المشهود
غير أنّ صلاة الصبح تمتاز عن بقية الصلوات بميزة رفيعة ذكرها الحقّ تعالى في القرآن الكريم بقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء: 78).

فالصلاتان اللتان بعد دلوك الشمس وزوالها هما الظهران، والصلاتان اللتان يمتدّ وقتهما إلى غسق الليل وهو منتصفه هما “العشاءان”. و”صلاة الصبح” هي التي عبّر عنها القرآن الكريم بقرآن الفجر، فقد امتازت بهذه الميزة مع الصلوات المتقدّمة، لكن أضيف إليها ميزة أخرى أنّها مشهودة للملأ الأعلى. وقد رُوي عن إسحاق بن عمار قال: “قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: يا أبا عبد الله أخبرني عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر، قال: مع طلوع الفجر إنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، هي صلاة الفجر يشهدها ملائكة النهار وملائكة الليل، فإذا صلّى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أُثبتت له مرتين تثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار”(3).

ولا شكّ في أنّ إفرادها بهذه الميزة منطلق من أهميتها ومن أهميّة توقيتها، حين ينبلج النور وتنكشف الظلمة. والتجربة خير شاهد على أنّ للصلاة إيقاعها الهائل في الحسّ، في مطلع الفجر، وتفتّحه بالنور، ونبضه بالحركة، وتنفّسه بالحياة بعد التوفّي بالنوم، والنشاط في الحركة بعد السبات.

على أنّ القيام إلى الصلاة في الفجر دليل على الرغبة الصادقة والإرادة الأكيدة في الاستجابة لأمر الله تعالى؛ ما يضفي مزيداً من الفضل على الطاعة؛ لأنّ هذه الفريضة تجب على الناس في ألذِّ أوقات النوم، حتّى إنّ العرب كانوا يسمّون نوم الفجر (العُسَيْلَةَ) للذّتها.

* ضرورة الاهتمام بصلاة الصبح
مع كلّ هذا الفضل وتلك الميزات التي تميّز صلاة الصبح، لكنّنا مع الأسف نشهد تثاقلاً عن أدائها وتكاسلاً عن إقامتها في أوقاتها. وغالباً ما يُبرّر هذا التكاسل بغلبة النوم وأنّ النائم لا إثم عليه، غافلين عن أنّ هذا النحو من التبرير لا يليق بالمؤمن الراغب في التقرّب إلى الله وإطاعة أوامره. نعم لا يليق بمؤمن أن ينام عمّا فرضه الله عليه؛ تحصيلاً لمصلحته الدنيويّة والأخرويّة. وكيف ينام والله يدعوه إليه، يفتح له أبواب رحمته، ويرسل الملائكة ليؤمّنوا على دعائه، وليصعدوا بعمله؟ وكيف ينام والنداء ينزل من عالم الملأ الأعلى بحيِّ على الصلاة، وحيِّ على الفلاح، وحيِّ على خير العمل؟! وكيف يفضّل النوم على الصلاة وهذا الناطق بالوحي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله عزَّ وجلَّ إليه حتّى ينصرف، وأظلَّته الرحمة من فوق رأسه إلى أفق السماء، والملائكة تحفّه من حوله إلى أفق السماء، ووكَّل به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: أيّها المصلِّي لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتَّ ولا زلت من موضعك أبداً”(4).

* وفادةٌ لأمر الله
إنَّ القيام إلى صلاة الصبح في غاية السهولة إذا ما توفّرت النيّة والإرادة الجديّة في الطاعة والرغبة في الوفادة على الله، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ في الإنسان ما يُسمّى بالساعة البيولوجيّة التي تؤقّت للجسم، فتنبّهه من النوم كما ينبّهه المنبّه العاديّ، لكنّه يحتاج إلى أن يعتاد عليه، وهو أمر يسير؛ إذ يكفي أن ينهض الإنسان عند الفجر ليومين أو ثلاثة فيعتاد الجسم على ذلك.

كما ورد في الرواية استحباب قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف حين يباشر الإنسان بالنوم ويحدّد الساعة التي يريد أن ينهض فيها من نومه، فيقوم بإذن الله، والآية هي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.

كما ينبغي أن يقلّل الإنسان من السهر، وأن يتخفّف من الطعام في الليل، وقبل ذلك وبعده أن يخلص النيّة لله ويستشعر عظمة صلاة الصبح وعظمة من يدعوه إليها.

والله المستعان وهو وليّ التوفيق.

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج4، ح12، ص170.
2- (م.ن)، ح2.
3- ثواب الأعمال، الصدوق، ص36.
4- وسائل الشيعة، (م.س)، ج4، ص32، ح5.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock