مقالات

الخلوة في جوف الليل هي أفضل فرصة

 يقول الإمام الباقر عليه السلام: إذا أحببت أن تكون رقيق القلب فاسع لأنْ تطرد الغفلة عنك، وذلك عبر كثرة الذكر والالتفات، ومن أجل أن تُحافظ على حالة الالتفات، وأن لا تسمح للعوامل الخارجيّة بأن تصرفك عن نفسك، فكن من أهل الخلوة بالله!

فمن المناسب جدّاً أن يُرتّب المرء لنفسه خلال اليوم والليلة – لا سيّما أثناء الليل – برنامجاً للخلوة: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾[1]، ففترة الليل هي أكثر استقامة وثباتاً وتأثيراً، فعلى الإنسان أن يخلو بنفسه في الليل ويدرس علاقته بربّه، فكلّما أطال التفكير في هذا الأمر ازداد قلبه رقّة، فقد جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “عوّدوا قلوبَكم الرقّة”[2]، والتعبير ب “عوّدوا” هنا ينطوي على التفاتة.

فالأمور البدنيّة تبدأ عادة من القليل حتّى يتعوّد الإنسان عليها تدريجيّاً فيتمكّن فيما بعد من إنجاز أعمال أضخم. والرياضيّون خير مثال على ذلك. والقضيّة ذاتها تنطبق على المسائل المعنويّة، فإذا رغب المرء في اكتساب حالة رقّة القلب في الخلوات فلا ينبغي أن يظنّ أنّه سيتحوّل منذ اليوم الأوّل حتماً إلى واحد من بكّائي العالم، بل عليه أن يعوّد نفسه على هذه الحالة بشكل تدريجيّ.

عليه أن يُفكّر في الموضوعات التي توجب خجل وحياء الإنسان من الله سبحانه، فلو طلب صديق الإنسان الحميم منه شيئاً قائلاً: امتنع عن هذا الفعل لأجلي، لكنّ هذا الإنسان فعل ذلك الفعل ظنّاً منه أنّ صديقه لا ينظر إليه، فاكتشف فجأة أنّه يُشاهده، فأيّ حال سيطرأ عليه يا تُرى؟ فما بالك بالله العظيم الشأن الذي لا يملك الإنسان شيئاً إلاّ منه، وقد طلب من الإنسان أمراً لا يصبّ إلاّ في صالح الإنسان نفسه، وليس له من أثر عليه تعالى على الإطلاق، لكنّ هذا الإنسان نسي ربّه وأصرّ بلا حياء على ما نهاه الله عنه، فإن التفت إلى أنّ الله حاضر وناظر وهو يراه، فإلى أيّ حدٍّ ينبغي أن يشعر بالخجل؟! فإذا خلى الإنسان بنفسه وجسّد هذه الحالة في مخيّلته، فإنّ لذلك أثراً عظيماً. إذن عليه أن يُمارس هذا التمرين باستمرار، ويعوّد نفسه عليه، وعندها ستحصل عنده حالة البكاء والتأوّه والأنين شيئاً فشيئاً”[3].

 الخلوة القلبية

والمقصود من الحديث الشريف الذي يقول الحقّ تعالى فيه أنا جليس من جالسني.. هذه هي الخلوة القلبية، وهذه الخلوة هي أفضل الخلوات، والخلوات الأخر مقدّمة لحصول هذه الخلوة، فمن اتّصف بجميع مراتب التقوى يسلم دينه وعقله وروحه وقلبه، وجميع قواه الظاهرة والباطنة، وتسلم حفظته الموكلة به، ولا تملّ ولا تضجر ولا تتوحّش منه، ومن كان بهذه الصفة تكون معاملاته ومعاشرته مع صديقه وعدوّه بطريق السلامة. بل ينقطع جذر العداوة عن باطن قلبه، وإن كان الناس يُعادونه[4].

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: “اشحن الخلوة بالذكر، واصحب النعم بالشكر”[5].

فاحذر أيها القارئ الكريم ممّا يُسبّب لك قسوة القلب، وأكثِر من ذكر مولاك، وسله في خلواتك شفاء قلبك. رزقنا الله وإيّاكم رقّة القلب وسكينته وإخباته لربّه، وتذلّل بين يديه تعظيماً وإجلالاً، فإن ذلك منزلة رفيعة من منازل المؤمنين، تتقاصر أمامها نفوس الضعفاء، وأعاذنا الله وإيّاكم من القسوة، وصلى الله على أرحم الخلق سيّدنا مُحمد وآله الطيّبين الطاهرين.

المهتدون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] سورة المزمل، الآية 6.
[2] العلامة المجلسي, بحار الأنوار, ج70, ص81.
[3] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب، 2011 م.
[4] الإمام الخميني قدس سره، الآداب المعنوية للصلاة، ص554 – 555، الفصل الثاني آداب السلام عند الصادق عليه السلام.
[5] الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم،الفصل الثاني: في الذكر، الحكمة 3606.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock