دينيةمقالات

الإمام الحسين عليه السلام: الرحيمُ بأصحابه

الشيخ بسام حسين

 

“فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي خيراً”(1). هم أوفى الأصحاب وخيرهم، بهذا عرّف سيّد الشهداء عليه السلام أصحابه الذين ثبتوا معه، وقاتلوا بين يديه، وبذلوا مهجهم دونه، ودُفنوا في جواره حيث حلّت أرواحهم بفنائه، فكانوا معه في الدنيا والآخرة، وقُرنت أسماؤهم باسمه.

وقد برزت من الإمام عليه السلام تجاه هؤلاء الأصحاب مواقف عدّة تُظهر تقديره عليه السلام لهم، وعنايته بهم، ومحبّته لهم، ولم تكن تلك المواقف وليدة عاطفة خاصّة، أو محاباة شخصيّة، بقدر ما كانت فيضاً حسينيّاً على ثلّة لها استعداد أن تتحوّل إلى “الصفوة”. تحاول هذه المقالة تتبّع بعض هذه المواقف لمعرفة المقام الرفيع الذي وصل إليه هؤلاء بفضل الرحمة الحسينيّة.

* المكاشفة والوضوح
لم يكن الإمام عليه السلام يُخفي عن أصحابه شيئاً من الأمور المتعلّقة بنهضته، فكان يكاشفهم ويخبرهم في الطريق بما يجري معه من أحداث، فقد نُقل أنّه لمّا جاءه الأسديان يخبرانه بشهادة مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة، قالا له: رحمك الله، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك علانية، وإن شئت سرّاً، فنظر إلى أصحابه، ثمّ قال: “ما دون هؤلاء ستر”(2). بل كان يخيّرهم بين الانصراف والبقاء معه، فكان ينصرف بعض من لحق به في الطريق، ويبقى هؤلاء الأصحاب الخلّص الأوفياء.

* المشاركة في الطاعة والعبادة
في ليلة العاشر من محرّم، وبعد أن استمهل الإمام عليه السلام القوم أن يكفّوا عنه، قام عليه السلام وأصحابه الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد:

سمة العبيد من الخشوع عليهم
لله إن ضمّتهم الأسحار

فإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم
بيضُ القواضب أنّهم أحرار(3)

يُفهم أنّ هذا الاستمهال لقضاء ليلة في العبادة يحمل دلالة، خاصّة ليلة الشهادة، وهو أنّ نزال الغد هو لله فقط من خلال تجهيز هذه الثلّة من المطيعين الزاهدين القانتين لنزال خاصّ، وهذا جزء من الطاعة.

* المحبّة مظهر رحمة
أظهر سيّد الشهداء عليه السلام عطفه ورحمته ومحبّته لهؤلاء الأصحاب في مواضع عديدة، كانوا يبادلونه فيها بأشدّ أنواع الوفاء والإيثار بالنفس والمال والولد، فكان يبكي على بعضهم، ويحزن لفراقه، ويمشي إلى مصرع آخر، ويحتضن هذا، ويمسح على رأس ذاك كالأب الحنون العطوف الفاقد لأبنائه وأحبّته. وفي ما يأتي بعض الأمثلة:

1. “عند الله أحتسب حماة أصحابي”: لمّا وقع مسلم بن عوسجة الأسدي صريعاً وكان به رمق، مشى إليه الحسين عليه السلام فقال: “رحمك الله يا مسلم: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23)، ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنّة، فقال مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير، فقال له حبيب: لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك من ساعتي هذه، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك(4). فقال له مسلم: بلى، أوصيك بهذا رحمك الله -أومأ بيده إلى الإمام الحسين عليه السلام- أن تموت دونه، فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة(5)، فما أسرع أن فاضت روحه(6). ولمّا استشهد حبيب بن مظاهر، أثّر ذلك في الإمام عليه السلام تأثيراً واضحاً حتّى روي: هدَّ مقتله الحسين عليه السلام فقال عليه السلام: “عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي”(7).

2. احتضانه الغلام التركيّ: لمّا استغاثه الغلام التركيّ، مشى إليه الإمام الحسين عليه السلام فرآه وبه رمق يومئ إليه، فاعتنقه الإمام عليه السلام، فبكى، ووضع خدّه على خدّه، ففتح الغلام عينيه، فتبسّم وقال مفتخراً: “مَن مثلي وابن رسول الله واضع خدّه على خدّي؟ وفاضت روحه الطاهرة”(8).

3. “اذهب لفكاك ابنك”: لمّا قيل لبشر بن عمرو الحضرمي: إنّ ابنك عمراً قد أُسر في ثغر الريّ، قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبّ أن يُؤسر وأن أبقى بعده، سمع الحسين عليه السلام مقالته، فقال له: “رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك ابنك”. فقال له: أكلتني السباع حيّاً إن أنا فارقتك يا أبا عبد الله، فقال له: “فأعط ابنك محمّداً -وكان معه- هذه الأثواب البرود يستعين بها في فكاك أخيه”، وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار(9).

4. دعاؤه عليه السلام للشهداء: لمّا قُتل جون مولى أبي ذرّ الغفاري، جاء الإمام عليه السلام حتّى وقف على مصرعه، ودعا له أن يحشره الله مع الأبرار، ويعرف بينه وبين محمّد وآل محمّد(10).

5. قبوله عليه السلام إنابة التائب: عندما جاءه الحرّ بن يزيد الرياحي تائباً، استقبله الإمام عليه السلام برحابة صدر، رغم كلّ ما فعله به وبأهل بيته، حيث جعجع به في ذلك المكان وأنزله على غير ماء وكلأ. وعندما اعتذر من الإمام عليه السلام وسأله: أفترى لي من توبة؟ قال له عليه السلام: “نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك… أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة”(11).

6. بكاؤه عليه السلام لتفاني الأصحاب: لما تقدّم أنس بن الحرث الكاهلي، وهو من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شيخاً كبيراً، استأذن الحسين عليه السلام في القتال فأذن له، فجعل يشدّ وسطه بالعمامة، ثمّ دعا بعصابة عصّب بها حاجبيه ورفعهما عن عينيه، والإمام عليه السلام ينظر إليه، ويبكي ويقول: “شكر الله لك يا شيخ”(12).

7. “أنت أمامي في الجنّة”: من مظاهر التفاني في المحبّة أيضاً ما نراه لدى عمرو بن قرظة الأنصاري، الذي كان يدفع بيده عن الإمام الحسين عليه السلام كلّ سهم يأتيه، ويتلقّى بمهجته كلّ سيف يقترب منه، حتّى أثخن بالجراح، ولم يكن لديه همّ إلّا سيّد الشهداء عليه السلام، فالتفت إلى الإمام الحسين عليه السلام وقال: أوفيت يا بن رسول الله؟ قال عليه السلام: “بلى، أنت أمامي في الجنّة، فأقرئ رسول الله عنّي السلام، وأعلمه أنّي في الأثر”(13)؛ فمن رحمة الإمام المعصوم عليه السلام أن يقدّم صاحبه أمامه بين يديه في الجنّة، وأن يخبره بذلك لطمأنته واستقرار نفسه، وتكليفه بأمانة إيصال سلامه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتبشيره له بأنّه سيلقاه.

* سادةٌ مع الحسين عليه السلام
لا تعني الرحمة دائماً العطف وإظهار الشفقة والعون وغيرهما، فثمّة مرتبة عالية للرحمة وهي مساعدة الآخر ليصل إلى مراتب معنويّة عالية، ولو بالشدّة، أو الاختبار، أو الصبر والمجاهدة، والإمام الحسين عليه السلام كان باب هؤلاء ليصبحوا خير الأصحاب والصفوة والنخبة، وليس ذلك إلّا بسبب موقفهم النابع من قلوب محبّة وعاشقة للحسين عليه السلام. وهذا ما نجده في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام لما مرّ على كربلاء: “مناخ ركاب، ومصارع عشاق شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن بعدهم”(14)، فوصفهم بالمقتولين الذين هاموا عشقاً بالإمام الحسين عليه السلام، وبذلوا أرواحهم في سبيله من فرط المحبّة.

وقد اكتسب أصحاب الحسين عليه السلام حصراً لنصرتهم سيّد الشهداء لقب “سادة الشهداء”، كما جاء في بعض الزيارات عن الإمام الصادق عليه السلام: “أنتم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة”(15)، فسبقوا سائر الشهداء، حتّى ورد في زيارتهم أن نتمنّى لو كنّا معهم: “يا ليتني كنت معكم فأفوز معكم في الجنان مع الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً”(16).

فالسلام على الحسين وعلى أصحاب الحسين أبداً ما بقينا وبقي الليل والنهار.

(1) الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 91.
(2) المصدر نفسه، ج 2، ص 74.
(3) السيّد الأمين، لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام، ص 120.
(4) الشيخ المفيد، مصدر سابق، ج 2، ص 104.
(5) السماوي، إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام، ص97.
(6) يراجع: الشيخ الطبري، تاريخ الطبري، ج 4، ص 332.
(7) السماوي، مصدر سابق، ص 99.
(8) الحسيني الشيرازي، ذخيرة الدارين، ص467.
(9) السماوي، مصدر سابق، ص 151.
(10) المصدر نفسه، ص 154.
(11) الشيخ الطبري، مصدر سابق، ج 4، ص 325.
(12) الحسيني الشيرازي، مصدر سابق، ص 375.
(13) السيّد الأمين، مصدر سابق، ص 148.
(14) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 98، ص 116.
(15) الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 574.
(16) السيّد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج 2، ص 66.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock