مجتمعمقالات

بالكلمة نعلّم.. بالمعروف نربّي

د. محمد رضا فضل الله

﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً﴾ (البقرة: 263). من المسلّمات التربويّة التي من المفيد أن يعيشها المربّي، سواء أكان أباً أم أماً أم معلّماً تنمية كامل شخصيّة الطفل بأبعادها المتنوّعة، من أجل إنتاج إنسان سليم جسدياً، ومستقرّ نفسياً، متوازن عقليًا، متكيّف اجتماعياً، مطمئن روحياً، ومهذّب سلوكياً… وحتّى ننتج هذا النّمط النموذجي من الشخصيّة الإنسانيّة، ينصح المربون بدراسة الخصائص العمريّة لكلّ مرحلة من مراحل النمو، من أجل مواكبة تطوّرها، والاستجابة لحاجاتها.

وقد قيل للمعلم: “اعرف تلميذك تضع قدمك على الطريق”، فالثقافة التي يمتلكها حول خصائص تلميذه وحاجاته تمثّل بالنسبة إليه المفتاح السحري الذي يفتح به قلبه، لتنفتح كل آفاق عقله على ما يحبّ هذا المعلّم ويرغب من عناصر تهذّب شخصيّته، وتضبط سلوكه، فمن جهة يكسب محبّته وثقته، ومن جهة أخرى يعيش هيبته وسموّ مكانته، فينجذب إليه، ليمثّل من خلال كل ذلك القدوة الصالحة التي يأخذ عنها برغبة كل قناعاته وعاداته ومواقفه.

* النّظام في اللانظام
في مرحلة رياض الأطفال قال مربٍّ لحادقة جاءت إليه وهي تشكو شغب الأطفال وعبثهم وصعوبة ضبطهم: “أحبّي الطفل، واحمليه على حبّك، ثمّ اطلبي منه ما تشائين”. ثمّ تابع حديثه بالقول: “أيتها المربية… النّظام في رياض الأطفال هو اللانظام، فأنتِ تصنعين النظام الذي ينسجم مع حاجاته ومزاجه، أما إذا أردتِ أن يكون لروضتك نظام فكوني أنتِ النظام مجسّدًا في الكلمة والأدب والفعل، كوني القدوة، وسترين كيف يندفع أطفالك لتقليدك ومحاكاة كل ما ترغبين فيه”. وهنا يُنصح المربي الصالح أن لا يأخذ حريّته العفويّة أمام الطفل، فيحرص على رصد أقواله وأفعاله وحركاته، وحتى أناقته وطريقة مشيه، ونظافة كلامه، ولطف معشره… فعنه يأخذ الأطفال كل شيء بدون أمر، وبتقليد دون اختيار.

* أيّها المربّي المسؤول
إنّ غرس محبّتك وثقتك واحترامك في وجدان الطفل وعقله هو أقصى ما يجب أن تسعى إليه… أيها المربّي المسؤول، مهما كان موقعك كن الأب أو الأم الذي يعيش همّ حاجات الطفل وآماله وطموحاته، والذي يسارع إلى الاستجابة لها بالشكل الذي يضمن أمنه النفسي، وتوازنه الشّخصيّ، ليصبح موضع ثقته، ومستودع سرّه، ونموذج قدوته. وانطلاقًا من قدرة الطفل الفائقة على التقليد والمحاكاة، على المربي، في إطار تربية الطفل بالكلمة الطيّبة وعلى الكلمة الطيّبة، أن يُحسِن اختيارها في خطابه للطفل من جهة، وفي حواره اليومي مع الآخرين من جهة ثانية، بحيث لا يصدر عنه إلاّ التعبير الأحسن، الذي ينسجم مع التوجيه القرآني: يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… ﴾ (الإسراء:53) ويقول عزّ وجلّ: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً… ﴾ (البقرة:83) أي أن يعيش الطفل في بيئة كلاميّة نظيفة، تتسلّل من خلالها كلّ الكلمات الحسنة، والتعابير المهذّبة إلى ذاكرته ومنطقه وذلك بأن:

1ـ نُسمعه الكلام المهذّب الذي يتّسم بالعاطفة (يا حبيبي، يا عزيزي افعل كذا…).
2ـ نشجّعه على ما يصدر عنه من كلام جميل فيه أدب واحترام للآخر.
3ـ نحرص على أن يقرأ أو يستمع إلى القصص الأخلاقيّة التي تنسجم مع ذهنيّته وأفقه.
4ـ نعالج مشكلاته ونشاطاته الحركيّة المفرطة بالمحبّة والصبر والهدوء والحوار…
5ـ نستخدم التعابير المتوازنة في إطار العقاب أو في حالة الانفعال، لا عنف، لا إذلال ولا تشهير…

* أَشعره بخطورة الموقف
أما إذا تجاوز الطفل بعض حدوده المرسومة، وخرج عن بعض الضوابط المتعارفة، انطلاقًا من مؤثّرات بيئيّة (المدرسة، الرفاق، الشارع…)، وبدأ يستخدم ألفاظًا نابية دون أن يدرك مراميها وآثارها… فعلى الأهل خاصّة التوقّف عند هذه الظاهرة في بداياتها لمعرفة أسبابها وأجوائها، حتى لا تصبح جزءًا من قاموسه اللغوي، ولا يتحوّل التلفّظ بها إلى عادة متجذّرة يصعب استئصالها في المستقبل. هنا نحذّر المسؤوليين التربويين من التساهل في هذا الأمر، ومن اعتباره حالة طارئة، قد يرتاح إليها بعضهم ليشجّعها كمادة للتندر والضحك…، بل على العكس عليهم أن يظهروا الانزعاج التام الذي يُشعر الطفل بخطورة الموقف، ليعيش حالة من عدم التوازن والقلق، من أجل أن يبحث عن طرق للتكفير عن ذنبه، بالندم والاعتذار والاستغفار والتوبة والتصميم على اللاعودة. يتحدّث أحد الآباء عن تجربته مع أحد أطفاله فيقول: كنت أحرص على تعليم أطفالي، منذ نعومة أظفارهم، الكلام المهذّب الجميل، ذات يوم فوجئت بأحدهم يتفوّه بكلمة قبيحة، فكان لها وقع الصاعقة على كل كياني، فاضطربت، وأظهرت الانزعاج والغضب الشديد الذي تمثّل بالصمت، والارتجاف والحركة السريعة، ذهاب، إياب، وقوف، جلوس، ذهول… بحيث أحسّ الطفل بهول الموقف وشدّته وخطورته. وبعد حوار قصير حول مصدر هذه الكلمة ونتائجها على موقعه وسمعته، طلبت منه أن يذهب إلى الحمام لينظّف فمه بالفرشاة والمعجون من أجل أن يزيل آثارها المرضيّة قبل أن تمتدّ لتنتشر في كل كيانه… هنا شعر الطفل بحجم الذنب الذي اقترفه، فانطلق ليظهر الندم، وليقدّم الاعتذار، وليقوم بالاستغفار والتوبة.

* مؤثرات سلبية
ومن أجل أن نحتاط ونحذر من تسرّب بعض المفردات المرفوضة إلى قاموسه اللغوي، علينا التوقّف عند المؤثّرات التالية:
1ـ الرفاق الذين تحوّل السباب إلى لغة متداولة في زادهم اليومي، بفعل التربية الخاطئة التي ينتجها الآباء والأمهات والقيّمون على اختلاف مواقعهم، فنعالج هذا الواقع بحماية الأطفال من التواصل الحميم معهم من خلال توضيح خطورة النتائج.

2ـ البرامج الإعلاميّة (مسلسلات، إعلانات، حوارات…) التي تفتقر إلى أدنى درجات التهذيب واحترام الآخر، والتي يقلّدها الأطفال، وبالتالي يعتمدونها بفعل التكرار، وهنا علينا التنبّه إلى مشاهداتهم من أجل تحصينهم وإظهار الانـزعاج ممّا يترامى إلى أسماعهم.

3ـ الآباء والأمهات الذين يشجّعون أطفالهم على التفوّه ببعض التعابير التي تتّصل بالسباب لبعض المقرّبين، والتي يحوّلونها في مجالسهم إلى مادة للتندّر والتسلية (قل لفلان كذا وكذا… ثمّ يبدأ الضحك والتشجيع…)، هنا علينا الحذر من التلاعب بالقيَم والمواقف المسؤولة.

مهارة التواصل الإيجابي
في الوقت الذي نحذّر ونحتاط من تسرّب الكلمات الخبيثة من خلال الرفاق ووسائل الإعلام والعشوائيّة في تصرّفات الآباء وغيرهم، علينا أن ننمّي لدى الطفل مهارة التواصل الإيجابي المهذّب من خلال:
1ـ إتقان مفردات الخطاب الإسلامي، والذي يكون عبر:
أ المبادرة إلى التحيّة بآدابها من خلال تعلّم مفرداتها.
ب التداول ببعض التعابير الدينيّة التي تضفي على تصرّفاته نكهة روحيّة (البدء بالبسملة، الحمد لله، الشكر لله، حسبنا الله، توكّلت على الله…).
ج حفظ بعض الآيات القرآنيّة القصيرة التي تحمل معاني عقيديّة، وأخلاقيّة وإنسانيّة… من أجل أن تصبح جزءًا من لغته اليوميّة المفضّلة (وقل رب زدني علمًا… وأمّا بنعمة ربّك فحدّث… وأمّا اليتيم فلا تقهر…).

2ـ استخدام بعض النشاطات والأساليب التعليميّة التي يتقن من خلالها أدب الحوار مع الآخر، من قبيل: أسلوب التعلّم بعمل المجموعات، أو حلّ المشكلات أو المناقشة الجماعيّة… حيث يتعلّم التلاميذ مهارة إدارة الحوار بهدف معالجة مشكلة دراسيّة أو علميّة أو اجتماعيّة، يتعلّمون:
أ التعبير بحريّة وأدب.
ب الإصغاء باهتمام وموضوعيّة.
ج عدم مقاطعة الآخر، مع الحذر من ممارسة الإرهاب الفكري.
د قبول نقد الآخر، مع الاعتراف بالخطأ إذا ثبُت ذلك.

3ـ إظهار الانزعاج من كل المواقف التي يمارسها الآخرون، والتي لا تعبّر عن احترام الآخر، والتي لا تنسجم مع القيَم الأخلاقيّة التي يرفضها الدين الحنيف، والذوق السليم، والتي تقلل من احترام وسمعة أتباعها.

4ـ تنمية ملكة التقوى لدى أولادنا، فنوثّق علاقتهم بالله تعالى من خلال محبّته وطاعته والرغبة في ثوابه والخوف من عقابه، ليلتزم بعفوية أوامره، فيستمع إلى الكلمة الطيّبة، ويتحدّث بالكلمة الطيّبة، ويحفظ الآيات والأحاديث التي تركّز على الكلمة الطيّبة من أجل أن ينال محبة الله تعالى ورضاه وثوابه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: 24-25).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock