مجتمع

مهدّدات الأسرة في الرؤية الإسلاميّة (الشذوذ نموذجاً)

 

الشيخ محمّد حسن زراقط

العواصف التي بدأت تضرب بالأسرة في العصر الراهن كثيرةٌ ومتنوّعة؛ بدءاً من تشريع تدخّل الدولة في كثير من الخلافات الأسريّة، التي كانت تُحلّ بالتراضي والتحكيم الأهليّ بين الزوجين، مروراً بالترويج لبعض النظريّات والاتّجاهات المتطرّفة في نظرتها إلى الأسرة، مثل النسويّة بنسخها المختلفة، وصولاً إلى تشريع الشذوذ الجنسيّ ومحاولات التقنين لهذه العلاقة، وتحويل طرفيها إلى أسرة (أحادية الجنس). ولعلّ هذا التهديد هو الأكثر إضراراً بالأسرة حيث يجعلها خياراً بديلاً عن الأسرة الطبيعيّة الموروثة منذ نشوء البشريّة.

فما هو موقف الإسلام من الانحراف الجنسيّ؟ وما هي فلسفة تحريمه أيّ شكل من أشكاله؟ وما هي بعض الشبهات المطروحة حول هذه القضيّة؟

الموقف الإسلاميّ من الشذوذ
يحرّم الدين الإسلاميّ هذه الظاهرة ويعاقب عليها. ويُعدّ هذا الموقف من مسلّمات الفقه الإسلاميّ؛ والأدلّة على ذلك كثيرة وواضحة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

1 – من القرآن الكريم: عرض القرآن الكريم قصّة النبيّ لوط عليه السلام مع قومه الذين نزل عليهم العقاب الإلهيّ بعد انتشار فاحشة بينهم: ﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 80). وتتولّى الآية اللاحقة بيان هذه الفاحشة؛ وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء. ولا تخفى دلالة الآية على التحريم والإدانة، خصوصاً مع نزول العقاب عليهم بسبب هذا الفعل.

وثمة آية في القرآن الكريم تؤسس قاعدة عامة لإشباع الحاجة الجنسية عند الإنسان، يُفهم منها قصر حالة العلاقة بين الرجل والمرأة في دائرة الزواج بأشكاله المختلفة، وتحريم ما عداها، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 5-7). فهذه الآية تمدح حفظ الإنسان فرجه (وهذا كناية عن الانضباط في العلاقات الجنسية) وتستثني العلاقة بين الزوجين، وتصف السعي لتجاوز هذا الحدّ بالبغي والعدوان. ويُفهم من الآية قصر العلاقة على نمط محدد من العلاقات الجنسية، وما سواه يكون شذوذاً وانحرافاً عن مقتضيات الفطرة وانتهاكاً لحدود الشريعة.

2 – من السنّة الشريفة: الموارد كثيرة جدّاً، منها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “من جامع غلاماً جاء جنباً يوم القيامة، لا ينقّيه ماء الدنيا، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً”، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الذكر ليركب الذكر فيهتزّ العرش لذلك، وإنّ الرجل ليؤتي في حقبه فيحبسه الله على جسر جهنّم حتّى يفرغ من حساب الخلائق، ثمّ يؤمر به إلى جهنّم فيعذّب بطبقاتها طبقة طبقة حتّى يردّ إلى أسفلها ولا يخرج منها”(1).

3 – العقوبة: يمكن أن نعدّ الأخبار والروايات التي تدلّ على ثبوت العقوبة على هذا الفعل دليلاً على الحرمة أيضاً، والأخبار في هذا المجال متعددة. وعلى الرغم من وجود بعض الاختلاف بشأن عقوبة اللّواط، إلّا أنّ أصل العقوبة لا نقاش فيه بين الفقهاء المسلمين، ولا شكّ في أنّ العقوبة دليلٌ على التحريم(2).

4 – الفطرة والعقل: المقصود من الفطرة في هذا السياق هو ما تقتضيه الطبيعة الأصليّة التي خلق الله الإنسان عليها. وقريب من الفطرة ما يسمّيه الفقهاء بالعقل أو الدليل العقليّ؛ لذلك، في القرآن آيات عدّة تشير إلى أنّ الحالة الطبيعية لخلق الإنسان هي الزوجية والتنوّع بين الذكر والأنثى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: 189)؛ فالحالة الطبيعيّة والفطريّة للعلاقة الجنسيّة هي العلاقة بين الرجل والمرأة.

5 – الشذوذ وتهديد الأسرة: لا شكّ في أنّ الشذوذ الجنسيّ يهدم أركان الأسرة، ويخرّب جميع القواعد التي بُنيت عليها. والتهديد الأكبر هو أنّ الانحراف تارةً يكون شخصيّاً، تتحقّق التوبة بعده، وهو ينطبق على كثير من حالات الانحراف التي نتحدث عنها، ولا تبقى آثار وذيول تحتاج إلى معالجة طويلة الأمد، ولكن التهديد الخطير أن تتحوّل هذه العلاقة الشاذّة إلى خيار بديل لتأسيس أسرة، يسير كلّ شيء فيها على خلاف الطبيعة، بدءاً من العلاقة بين الطرفين، إلى المسؤوليّة عن الأبناء وانتسابهم إلى هذا الطرف أو ذاك وصولاً إلى عيشهم في بيئة سوف تترك أثرها على توجيههم الجنسيّ. وتزداد الخطورة عندما نتحدّث عن مجتمع إسلاميّ، لا يقبل هذه الظاهرة، ولا يمكن أن يتطبّع عليها. بالتالي، نحن أمام خللٍ كبير له تبعات إنسانيّة خطيرة على أجيال متعاقبة قد تكون ضحيّة لهذه الخيارات الخاطئة.

وفي مقابل هذا الوضوح الذي ينطلق منه الموقف الشرعي من الشذوذ، نجد أنّ أصواتاً غربيةً عالية، بدأت أصداؤها تتردّد في مجتمعنا، تطالب بتغيير الموقف من هذه الظاهرة الاجتماعيّة، وتعلن بأشكال مختلفة أنّ الشذوذ حقٌّ من الحقوق التي تجب حمايتها!

الشبهات المطروحة
1 – في المصطلح: في هذه القضيّة تحديداً، تحوّل نحت المصطلح إلى جزءٍ أساسي من المعركة، التي تدور حول الفكرة. فقد كان يُعبّر عن العلاقة بين شخصين من الجنس نفسه، بمصطلحات تشي بإدانتها والموقف السلبيّ منها. فقد كان التعبير المستخدم في الثقافة الغربية مثل: “السدومية” أو اللّواط؛ ربطاً لهذه الممارسة بفعل أهل “سدوم”، موطن قوم لوط عليه السلام بحسب التسمية الواردة في العهد القديم. وبالنظر إلى الإدانة الواضحة التي يتضمنّها المصطلح، اقتُرح مصطلح بديل محايد إلى حدٍّ ما، وهو تعبير “homosexuality”، الذي نحته أحد الباحثين الألمان(3). وفي العقود الأخيرة، بدأت الاعتراضات تتوجه إلى هذا المصطلح، ما أدّى ببعض المنابر الإعلاميّة ذات التأثير في العالم الغربيّ، مثل صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست، إلى التوقّف عن استخدامه، وإدراجه ضمن المصطلحات التمييزيّة، التي لا يُحسن استخدامها في مناقشة القضايا المرتبطة بهذه الظاهرة(4). وعلى ضوء هذا التطوّر، بدأ الترويج في الثقافة العربيّة لمصطلح جديد هو “المثليّة”، والذي تحوّل إلى حجّة ينطلق منها بعض المدافعين عن الشذوذ، بدعوى ضرورة التمييز بين: السلوك وبين الميل الطبيعيّ. ويجادل هؤلاء بأنّ الأوّل هو اللواط المحرّم في الإسلام، أمّا المثليّة فهي حالة طبيعيّة وميل نفسيّ موجود عند بعض الناس.

وللردّ على هذا الطرح، لا بدّ من لفت النظر إلى مجموعة من الأمور، وهي:

أوّلاً: إنّ بعض الأمور المحرّمة في الشريعة الإسلاميّة ليست محرّمة لاسمها، بل هي محرّمة لحقيقتها ولجوهرها. وما دام الجوهر موجوداً، يبقى الحكم مهما تبدّل الاسم. والمحرّم في الشريعة هو العلاقة التي تسير خلاف سير الطبيعة.

ثانياً: إنّ التمييز بين أصحاب السلوك والميل الطبيعيّ والتعامل القانونيّ مع كلّ فئة على حدة أمرٌ غير عمليٍّ بالحدّ الأدنى، ولا يرضى به المدافعون؛ فمن لا يناقش في التسمية حرصاً على مشاعر هؤلاء الناس، سوف يرفض حتماً إخضاعهم للاختبار لاكتشاف ميولهم النفسيّة.

ثالثاً: لنفرض أنّ مثل هذا الميل موجود بشكلٍ طبيعيّ عند بعض الأشخاص، فهل هذا يبرّر التصرّفات التي تنتج عنه؟ إنّ الميول لا يمكن أن تتحوّل إلى مستندات لتبرير السلوك، حيث الأمثلة التي لا يقبل المشرّعون، وأهل القانون، بل وسائر الناس تبريرها بالميول كثيرة ومتعددة، منها: من يرغب في الانتحار لسبب مرضي أو باختيار واعٍ، لا يسمح له القانون بالانتحار، ولا يسمح لغيره بمساعدته على تحقيق رغبته، والأمر نفسه في حقّ من يميل إلى العيش كمدمنٍ على المخدّرات، فمثل هذا الشخص يُعدّ مريضاً يحتاج إلى علاج. فلماذا لا ينظر إلى مسألة الشذوذ من هذا المنظار؟!

2 – الحريّة الفرديّة: واحدة من المفردات التي تُستخدم في النقاش الدائر حول هذه القضيّة هي مسألة الحريّة الفرديّة. تحت شعار أنّ من يُقدم على هذا الفعل، يُقدم عليه بإرادته واختياره، وأنّ هذا الأمر يدخل في دائرة الشأن الشخصيّ الذي لا يحقّ لأحدٍ تضييق خيارات الآخرين فيه.

يمكن الردّ على هذه الشبهة من خلال مسألتين:

أوّلاً: إنّ أصحاب هذا الحجّة يضيّقون حريّة الآخرين في أخذ موقف من هذه القضيّة، ويمنعونهم بأساليب ضغط متعددة، من التعبير عن رأيهم المعارض. فجمعية علماء النفس الأمريكيّين (APA) مثلاً، کانت تُصنِّف الشذوذ الجنسيّ في خانة الأمراض والاختلالات النفسيّة، ولكنّها عدّلت فهرستها للأمراض النفسيّة (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders = DSM) إثر الضغط الذي مورس عليها، ولم تستند في تعديلها إلى أبحاث أو دراسات علميّة مستجدّة؛ بل استندت إلى التصويت، وفازت النظرية الموافقة على الحذف بتأييد صوت عضوٍ واحد(5). يُضاف إلى ذلك، أنّ عدداً من الدول الغربيّة بدأت تشرّع قوانين تمنع الآباء من توجيه أبنائهم في اتّجاه محدّد، في مجال التربية الجنسيّة لاختيار الجندر الذي ينتمون إليه.

ثانياً: إنّ الحرية الفرديّة، بحسب وجهة النظر الإسلاميّة وغيرها، ليست حريّةً مفتوحة على جميع الخيارات، فلا يوجد على وجه الأرض حرية مفتوحة غير مقيّدة. فكل حرية مقيّدة إمّا بقيود الواقع الطبيعيّ أو بقيود القوانين التي تستند غالباً إلى مصالح ومفاسد اجتماعية أو إلى قيم أخلاقية تدعو المشرّعين والمقنّنين إلى التشريع في هذا الاتجاه أو ذاك. بالتالي، فإنّ النقاش الأساس يجب أن يتركّز على مجموعة من القضايا التي تدخل في مجال فلسفة القانون، وأهمّ هذه المسائل النظرة إلى: الإنسان، والأسرة، والمجتمع، وما يصلحه وما يفسده.

3 – العلم في مواجهة الدين: العلم حجّة من الحجج التي يستند إليها المدافعون عن الشذوذ الجنسيّ؛ وذلك بدعوى أنّ العلم والدراسات النفسيّة أثبتت أنّ بعض الناس يولدون وهم يميلون إلى الجنس المماثل، بالتالي، يجب عدم إجبارهم على تغيير ميولهم الطبيعيّة، بل ينبغي التعامل معهم كما هم، والاعتراف بميولهم الطبيعية ومساعدتهم على العيش وفق ميولهم التي يولدون معها.

وواحدة من أشهر المحاولات في هذا الميدان، هي الأبحاث والدراسات التي أجراها أحد علماء الجنس الأمريكيين ألفرد تشارلز كينزي (Alfred Charles Kinsey 1894-1956). أثار “تقرير كينزي”(6) موجةً واسعةً من الاعتراضات، وما زال. ووُجّه إليه الكثير من الملاحظات، نذكر منها:

أوّلاً: اتّهم صاحبه بالفساد الأخلاقيّ ومجانبة قواعد البحث العلميّ في دراساته؛ بل اتّهم بالهوس الجنسيّ وأنّه لم يكن مراقباً ومحلّلاً نفسيّاً أو عالماً اجتماعيّاً بقدر ما كان مشاركاً في الأنشطة التي يُفترض أنّه كان دارساً لها. بالتالي، في مقابل هذه الدعوى ودعوى أخرى تفسّر الشذوذ بالتركيبة الجينية لبعض الأفراد، ثمّة وجهة نظر أخرى ترفض هذه الدعوى بالكامل، وتعلن بوضوح أن لا وجود لمثل هذا الجين المسؤول عن الميل الجنسيّ عند بعض الأشخاص(7).

ثانياً: سواء ثبتت هذه النظريّة أو تلك، فإنّ التصرّف المترتّب على هذا الواقع ليس أمراً قهريّاً، ولا يُعفى الإنسان من المسؤوليّة عنه، بل غاية الأمر، علاج هذه المشكلة، لا الخضوع لها.

ثالثاً: إنّ النقاش في دور العلم في مجال التبرير الأخلاقيّ لبعض التصرّفات نقاش فلسفيّ عميق وواسع. ولكن باختصار نشير إلى جوهر الفكرة وروحها. لقد قدّم العلم للبشرية ولا يزال، خدمات جمة لا ينبغي التقليل من قيمتها، ولكن بشرط أن يكون الباحثون أمناء على النتائج التي يتوصّلون إليها، وأن يلتزموا بقواعد الحياد والنزاهة العلميّة أثناء ممارسة أبحاثهم ودراساتهم. أمّا وظيفة العلم ودوره الأساس، فهو الكشف عمّا هو كائنٌ وواقعٌ، ولكن عندما يصل إلى ما يجب أن يكون، ينبغي له أن يتوقّف ويتراجع، ويترك الساحة للأخلاق والقانون ليحدّدا كيفيّة التصرّف مع الواقع الذي اكتشفه العلم.

1- الكافي، الكليني، ج 5، ص 544
2- للمزيد من النقاش الفقهيّ التخصصيّ، انظر: الشيخ محمد يزدي، “حرمة إتيان الرجل وحده”، مجلّة فقه أهل البيتh، العدد 33، ربيع 1382هـ.ش.
3- يبدو أنّ أوّل من نحت هذا المصطلح هو العالم الألماني كارل هاينريش أولريكس، (انظر: حسين سوزنچی، «همجنس گرایی: اختلال یا امر طبیعی»، السنة 12، ربيع 1400 هـ.ش.، العدد 46.)
4- انظر: https://www.glaad.org/reference/terms. تاريخ الدخول إلى الموقع: 26-4-2022م.
5- Phil Hickey, Homosexuality: The Mental Illness That Went Away, https://www.behaviorismandmentalhealth.com/2011/10/08/homosexuality-the-mental-illness-that-went-away/تاريخ الدخول إلى الموقع: 27-4-2022م.
6- للمزيد انظر: حسين سوزنچی، «همجنس گرایی: اختلال یا امر طبیعی»، السنة 12، ربيع 1400 هـ.ش.، العدد 46.)
7-Jonathan Lambert, «No ‘gay gene’: Massive study homes in on genetic basis of human sexuality», doi: https://doi.org/10.1038/d41586-019-02585-6,https://www.nature.com/articles/d41586-019-02585-6. تاريخ الدخول إلى الموقع: 27-4-2022م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock