مقالات

الامام الصادق “عليه السلام” حاضنة الوعي

الشيخ لؤي المنصوري

الوعي مفردة سهلة يسيرة لا تحتاج الى قاموس اللغة والمعاجم في فهمهما ومعرفة معناها الا ان الصعوبة تكمن في كيفية التعامل مع الظروف والمتقلبات، ومشاركة الوعي دفي المنظومة المعرفية، وتحمل مسؤولية المرحلة، من خلال المشاركة في أسلوب الحياة وتعميق الهوية والفاعلية.
ومن خلال تحمل العبء وما يتمخض عنه من مشاركة فاعلة تدرك متطلبات المرحلة وقراءة الواقع قراءة موضوعية قادرة على خلق صورة واضحة للانطلاق من خلالها الى ايجاد الحلول الناجعة والاساليب المؤثرة والواعية في ذات الوقت. فهو الحاضر في خضم المواجهة والمجابهة في أتون الصراع المحتدم، فلا انكفاء يخرجه عن الحضور، ولا حضور الغائب، فضلا عن الحضور السلبي الذي تترتب عليه آثار وتداعيت خطيرة تمس جوهرية المبدأ وما ينعكس على القيم الاخرى والنتائج العملية. فكم من حضور يشبه الغياب وكم من غياب نتج عنه ذوبان الهوية والانزواء في مهملات التاريخ.
والامام الصادق عليه السلام وعصره بحاجة الى دراسة جدية عن رؤيته التوعوية وحضوره ضمن المرحلة التاريخية التي عاشها وما تحمله من تقلبات فكرية وسياسية واجتماعية، عصفت بالمجتمع الاسلامي الفتي واختزلت بين طياتها مراحل تاريخية عدة نتيجة الحضور الاسلامي الفاعل آنذاك في مختلف الابعاد.
البعد الفكر والديني والسياسي والاجتماعي في وقته مدمك في قالب واحد لا تستطيع وفق المنهجة الحاصلة التفكيك بينهم وعدم تاثير أحدها على الاخرى بشكل مباشر، إذ الثورة الدينية النبوية لامست الهوية الانسانية وحملتها مخاض المسؤولية تجاه مختلف الابعاد المرتبطة بالحياة، فكان الفرد يعيش الاجواء المختلفة باشكالها والوانها المتنوعة.
والامام عليه السلام بحكم موقعه ومقامه معنى بما تحيطه من أحداث ومتغيرات، وهو في قلب المخاض والمعترك، فلا تتركه السياسة بعيدا عنها وان نفض يده من التنافس الظاهر بين البيوتات ولم يسجل رسميا كتيار منافس الا انه عمل داخل المعترك السياسي وان لم يكن محسوبا ضمن طرف معين، فهو عمل في السياسة من خارج السياسة، وهو البعد التوعي الاول الذي سنتناوله في المقا، لما له من أهمية كبيرة وبارزة تنعكس بشكل مباشر على مسيرتنا وحركتنا في الحياة والتاريخ.
الوعي السياسي:
سياسة الامام الصادق سياسة خارج السياسة، وشق الطريق بين معتركين، انطلقا من خلفية بيتية، الصقت نفسها بالمبادئ والقيم الدينية، واختطفت الامة وادخلتها ضمن بوتقة ضيقة تمخض عن أتون قاتم فكريا وجسديا، وأخذت الامة بعيدا عن المنهجية المرسومة نظريا وعمليا، والعمل في مثل هكذا ظرف يحتاج الى قراءة فاحصة ووعي ثاقب يستطيع الحفاظ على التوازن، والاهم منه الثوابت والاصول التي كادت ان تضمحل.
لم يدخل في أتون السياسة الا أنه كان في قلبها ومفذلكلها وراسم المنهجية الاصيلة والحصيفة، ورافعة المنظومة السياسية الحقة، فمورست عليه مختلف أنواع الضغوطات من قبل حكام البيت الاموي من هشام بن عبد الملك الى الوليد فابراهيم ومروان بن محمد، لكنه لم ينكسر أمامها ولم ينكفئ رغم شدة حرابها، خلافا لمن توهم انزواءه وخروجه عن المعادلة السياسية( جهاد الشيعة: ص247، سميرو الليثي)، اذ كيف ينزوي ذو العلم الغزير وصاحب الحكمة كما يصفه الشهرستاني( الملل والنحل2/27)، بقدر ما كان يرسم الخط السياسي الالهي ويكرس جذوره في الامة المحرومة من حقها في العدالة والحرية وممارسة القيم الهوياتية، فغرس المبادئ وتوجيه الرؤى نحو الغاية والهدف ينعكس ضرورة على المنهج المعتدل، وهذا ما تخوف منه الحكام وجلب نظرهم وان كان متاخرا، وهو فحين يقول عليه السلام:( ما أحب أن أعقد لهم – أي الظلمة – عقدة، أو وكيت لهم وكاء، ولا مدة بقلم، وإن الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد) حلية الأولياء 3 : 194.
والحكم يدور بين العدالة والظلم، فالحاكم إما عادل أو جائر، والعدالة هي الفيصل في استقامة ودوام الحاكمية، ومن خلالها تحصل على رضى الرعية وقبولها، فرسالته موجهة لكلا الطرفين، الحاكم والمحكوم، فعمد الى تجفيف منبع القوة وهم الرعية فقال عليه السلام وهو يوصي النجاشي الذي تولى الاهواز:( واعلم أني سأشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلصت مما أنت متخوفه واعلم أن خلاصك ونجاتك من حقن الدماء وكف الأذى من أولياء الله والرفق بالرعية والتأني، وحسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، و مدارأة صاحبك ومن يرد عليك من رسله. وارتق فتق رعيتك بأن توفقهم على ما وافق الحق والعدل إن شاء الله) بحار الأنوار ج ٧٥ ص ٢٧1.
ويعمد في مقام آخر الى بيان مواصفات المتصدي والزعيم، وأن يكون عالما عارفا خبيرا حصيفا، كيما يستطيع بما يمتلكه من معرفة قيادة الامة على الطريق الصحيح وتحقيق الهدف ومواجهة التحديات، بعيدا عن الامنيات والتسابق السلطوي قالعليه السلام:( من ضرب الناس بسفه ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف) الكافي : 2 / 118.
ومع الحيف الاموي والجور العابر للحدود الانسانية وظهور قوة جديدة نتيجة التحالف بين بني الحسن عليه السلام وبني العباس، يشق الامام عليه السلام منحى آخر يختلف عن القائم والقادم، ويبلور رؤية سياسية قائمة على عدم ممالئة القوة الناشئة على حساب القائمة وما هي عليه من وهن يضاف الى سلوكها الاجرامي، وعدم الانسياق معها والحيلولة دون تمادي اتباعه مع الشعارات البراقة والوعود الوردية، ويحذر من زيفها ويدفع ضريبة الموقوف من سجنه والتعدي على شخصه الكريم، لكن النبل النبوي المندمث في هويته يمده بالموقف الابوي والمسؤول، ويبين أن الغاية ليست نزيهة والاهداف لا تخرج عن حدود الوصول الى دفة الحكم ولو على حساب الحلفاء والاصدقاء ففي الوقت الذي يقدّم عبد الله ولده محمد قائلا:( إن إبني هذا هو المهدي)، الذي وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، فدعاهم إلى بيعته، إلا أن الإمام الصادق عليه السلام يقف مخالفا قائلا له) :لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، إن كنت ترى أنّ ابنك هذا هو المهديّ فليس به، ولا هذا أوانه‏، فغضب عبد الله واتّهم الإمام بالحسد. وأخبر عبد الله بأن الخلافة ستكون للسفاح وإخوته وليس لعبد الله وأولاده نصيب فيها وأن ولديع محمد وإبراهيم سيقتلان. مقاتل الطالبيين، ص 185 – 186، الإرشاد، ج‏ 2، ص 192.
فعمل على تعرية السلطة القائمة من خلال التوعية السياسية، وعدم الوقوع في أحابيل القوة الثورية الصاعدة، إذ الغاية ليست نبيلة بقدر السعي إلى الهيمنة وتكريس مبدأ الدكتاتورية، فهي صورة أخرى عن الملك القائم، وأن حلفاء اليوم أعداء الغد، وأن الموت سيلازم قواد الثورة إذا ما سقط حكم الامويين.
وهو منهج حري بالدراسة والانتهاج والتطبيق، إذا يبلور طريقة سياسية ناجعة ومبتكرة، خلافا لما عمل عليه السياسيون الاسلاميون، فنتيجة دكتاتورية الحكام انساقوا خلف القوى الدولية وتحالفوا معها وجلبوا إلى بلدانهم الخراب والدمار، بعد أن عجزت إرادتهم على الصبر والتحمل والعمل وفق المنهجية الصادقية، وطمعا في تسنم دفة الحكم وما يدره عليهم من منافع ومكاسب، حتى إذا ما استوسق الامر وظنوا بأن الدنيا وقعت في شباكهم واذا بها تلتقفهم كما التقف عصا موسى ثعابين السحرة وتوقعهم في شباك هامان وصولا إلى فرعون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock