دينية

لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ؛ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»[1].

الأمل بين المدح والذمّ
للأملِ دورٌ مهمٌّ في حركة الحياة البشريّة وديمومتها، وله سهمٌ أساس في عمليّة التطوّر البشريّ في البُعدَين المادّيّ والمعنويّ، وهو عاملٌ تربويّ مؤثِّر وفعّال في هداية المنحرفين عن جادّة الحقّ، وفي ثبات الصالحين عليها، ومواصلة المسير، وتحمّل الصعاب. ولو ارتفع الأمل أو انقطع من قلوب الناس، لاختلَّت المسيرة الإنسانيّة، وتعطَّلت عجلة الحياة. من هنا، عدّ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) الأملَ رحمةً للأمّة، إذ قال: «الأملُ رَحْمَةٌ لأمّتي، وَلَوْلاَ الأملُ ما رضّعَت وَالِدَةٌ وَلَدَهَا، وَلاَ غَرَسَ غَارِسٌ شَجَراً»[2]؛ فالأمُّ إذا سُلِب أملُها، فإنّها لا تجدُ دافعاً لإرضاعِ طفلها، وتحمّلِ أنواع المشقّة والألم في تربيته وتنشئته. والمرء الّذي يعلم بأنّ يومَه هذا هو آخر يوم في حياته، أو أنّ له أيّاماً قلائل في الدنيا، وأنّه مغادرُها في القريب العاجل، فإنّه سيُلقي جميعَ ما في يده، ويجلس منتظراً ساعتَه.

لكن، إذا خرج الأملُ عن حدِّه المعقول، وتجاوز رسمَه الضروريَّ للحياة، فإنّ ذلك يكون إنذاراَ بالانحراف والهلاك، فمثله كمثل المطر الذي يُشكّل عاملاً رئيساً في حياة الأرض وما فيها من نباتٍ وحيوان، لكن ما إن يخرج عن حدِّه، يصبح عاملاً للغرق والهلاك.

إنّ طولَ الأمل من الرذائل الأخلاقيّة الّتي تجرّ صاحبَها إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، وتبعدُه عن الله تعالى، وتسلك به مسالك المهالك، ويترتّب عليها الكثير من العواقب الوخيمة؛ لذا عدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خصال الشقاء، فقال: «يا عليّ، أربعُ خصالٍ من الشقاءِ: جمودُ العين، وقساوةُ القلب، وبُعدُ الأملِ، وحبُّ البقاءِ»[3]، وأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عواقبه وآثاره، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ؛ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»[4].

دوافع طول الأمل
وبما أنّ طولَ الأمل له تأثير سلبيّ جدّاً في حياة الإنسان المعنويّة والأخلاقيّة، وحتّى المادّيّة أيضاً، كان لا بدّ من الاطّلاع على دوافعه ومعرفة أسبابه، والسعي في علاجها والتخلّص منها، ومن تلك الدوافع والأسباب:

1. الجهل بالنفس والغفلة عن حال الدنيا، وما فيها من التغيّرات والابتلاءات وعناصر التضادّ في حركة الحياة، فإنّ الإنسانَ، وبسبب جهله بنفسه وغفلته عن أنّه قد يحين أجله في أيّ لحظة تاركاً هذه الدنيا، فإنّه يقع في شراك التمنّيات البعيدة، ويحسب أنّ الموتَ لا يأتيه، ثمّ يحيط نفسه بطائفة من التصوّرات الواهية والآمال الّتي لا تسمح له في التفكير بالواقع والحقائق المحيطة به؛ لذا يُلفت أمير المؤمنين (عليه السلام) النظر إلى هذه الحقائق، فيقول: «مَنْ علِمَ أنَّهُ يُفَارِقُ الأحبابَ، وَيَسْكُنُ التُّرَابَ، وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ، وَيَسْتَغْنِي عَمَّا تَرَكَ، ويَفْتَقِرُ إلى مَا قَدَّمَ، كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الأملِ وَطُولِ الْعَمَلِ»[5].

2. الجهل بالآخرة، وما وعد اللهُ فيها من الثواب العظيم الّذي أعدّه للمؤمنين، يشكّل سبباً في أن يَقْصرَ الإنسانُ نظرَه على هذه الدنيا، ويتصوّرَ الخلودَ فيها، فيغرق في الأوهام والتمنّيات والآمال الدنيويّة، ويوقعه جهلُه بالسعادة الكامنة في الزهد والتحرّر من أسر الشهوات والنوازع الدنيويّة في أن يُحر

ق نفسه بنار طول الأمل، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابن مسعود: «قصِّر أملَكَ، فإذا أصبحْتَ فَقُلْ: إنِّي لا أُمسي، وإذا أمسيْتَ فَقُلْ: إنِّي لا أُصبِحُ، واعزمْ على مفارقةِ الدنيا، وأَحبَّ لقاءَ اللهِ»[6].

3. الغفلة عن قدرة الله، ونسيان الإنسان هذه الحقيقةَ الحاسمةَ في واقع الحياة، أو جهله بها، فإنّ الإنسان ومنذ انعقاد نطفته في رحم أمّه هو بعين الله ومحطُّ عنايته ورعايته، إذ يعيش الضعف بمنتهاه، ولا تصل إليه يدُ أحد من الناس لتُعينه، وتوصل إليه رزقه في ظلمات الرحم، وتستمرّ عناية الله به إلى آخر حياته، وكذلك حال أولاده وعياله، فإذا كانوا من أهل الإيمان والصلاح فإنّ الله لا يضيّعهم، وإن كانوا من أعداء الله فلا مسوّغ للتعب في سبيلهم وخدمتهم؛ إذ إنّ ذلك يدعو إلى التعلّق بهذه الدنيا والسعي وراءها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ ووَلَدِكَ؛ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ ووَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اللَّه، فَإِنَّ اللَّه لَا يُضِيعُ أَوْلِيَاءَه، وإِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّه، فَمَا هَمُّكَ وشُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللَّه»[7].

الآثار السلبيّة لطول الأمل
إنّ جميع هذه الحالات من الغلفة والجهل، تتسبّب في أن يعيش الإنسانُ أسيرَ أمنياته، ورهينَ طول أمله، الأمر الذي تترتّب عليه آثارٌ مدمّرة في حياة الإنسان، منها:

1. كثرة الذنوب: فإنّ الّذي يعيش طول الأمل بالدنيا يجد نفسَه مضطراً إلى تجاوز الكثير من مسائل الحلال والحرام في سبيل تحقيق أمنياته، وعدم مراعاة حقوق الآخرين، فيقع في غصب الحقوق، وأكل أموال اليتامى، والتطفيف في الميزان، وأكل الربا، والرشوة… عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ أَطَالَ أَمَلَهُ، سَاءَ عَمَلُهُ»[8].

2. قسوة القلب: فقد جاء في الحديث في ما ناجى اللَّه عزَّ وجلَّ به موسى (عليه السلام): «يَا مُوسَى، لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ فَيَقْسُوَ قَلْبُكَ، والْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ»[9].

3. نسيان الأجل: فكلّما زاد أملُ المرء في الدنيا وطمعُه فيها، قلّ ذكرُه للموت، وانشغل عن الآخرة، وعاش الغفلةَ التامّة عن هذه الأمور المصيريّة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أكثرُ النَّاسِ أملاً اَقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً»[10]، وعنه (عليه السلام) أيضاً، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «طُولُ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ»[11].

4. الذلّة في الحياة: إذ إنّ خيبةَ الآمال وعجزَ الإنسان عن تحقيق مراده، يدفعه إلى الإذعان والخضوع أمام كلِّ ما يعتقد أنّه يوصله إلى أهدافه ويحقّق أمانيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ذُلُّ الرِّجَالِ فِي خَيْبَةِ الآمال»[12].

5. عدم إدراك الحقائق: إنّ الآمالَ والتمنّيات البعيدة، حالها حال السراب الّذي يخدع الظمآن ويجرّه إليه، من دون أن يحقّق مراده. فالآمال والتمنّيات تُظهِر الوقائع بأقنعة مزيّفة، فتحرف صاحبَها عن الصراط القويم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الأمَانِي تُعْمِي عُيُونَ الْبَصَائِرِ»[13].

علاج طول الأمل
بناءً على ما ذُكر من آثار سلبيّة وخيمة وعظيمة لهذا المرض، حريٌّ بالمرء أن يسعى في علاجه، والتخلّص منه، وذلك من خلال:

1. ذكر الموت: فإنّه من أقوى العوامل المؤثّرة في تقصير الأمل في الدنيا؛ إذ يُزيل عن بصيرة الإنسان حجُبَ الغفلة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلَا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، ومُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وقَاطِعَ الأُمْنِيَاتِ»[14]. فعلى الإنسان أن يعلم أنّه كائنٌ مُعرّض للتلف والموت، وأنّ الفاصلةَ بينه وبين الموت قليلةٌ جدّاً. وعليه أن يتدبّر ويتأمّل هذه الحقيقة، وهي أنّنا نعتقد بالمعاد واليوم الآخر والحساب الإلهيّ، وأنّ هذا العالمَ زائل، والموتَ جسرٌ يعبر عليه الإنسان إلى تلك الحياة الخالدة.

2. معرفة حقيقة الدنيا: يجب أن يتفكّر الإنسان في اضطراب الدنيا وتغيّرها الدائم وتقلّبها. وأنّ الحرص على جمع الأموال والثروات واكتنازها لغرض تحقيق الآمال الواسعة في الحياة الدنيا لا يجلب السعادة، بل يزيد الشقاء والمحنة، وأنّ ما يجمعه يتركه لغيره، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «خُذْ مِنْ دُنْيَاكَ لِآخرتِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ، فَإنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً»[15].

3. معرفة الآثار السلبيّة المترتّبة عليه: وأنّه من الأسباب المهمّة لقساوة القلب ونسيان الآخرة، وأنّ طولَ الأمل يبعث على حياة التعب والذلّ، ويسدل على البصيرة والعقل حجاباً يُعمي عن الحقائق.

[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص83، الخطبة 42.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص173.
[3] الشيخ الصدوق، الخصال، ص243.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص83، الخطبة 42.
[5] ابن أبي الحديد المعتزليّ، شرح نهج البلاغة، ج20، ص268.
[6] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص452.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص536، الحكمة 352.
[8] الشيخ الصدوق، الخصال، ص15.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص329.
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص120.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص44.
[12] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص256.
[13] المصدر نفسه، ص28.
[14] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص145، الخطبة 99.
[15] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج8، ص244.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock