مجتمعمقالات

الحرب الناعمة | القدوة في دائرة الاستهداف الناعم

د. علي الحاج حسن

تُشكّل القدوة معلماً مهمّاً على مستوى تكوين هويّة الفرد والجماعة؛ حيث يصبح كلٌّ منهما من خلالها أكثر قدرة على تحديد مستوى انتمائهم ووجهته، وأيضاً معرفة السلوكات التي ينبغي أن تصدر عنهم.

لم يكن للقدوة (بما تمتلكه من قيم وثقافة وفكر) التي يتبنّاها الفرد أن تؤدّي هذا الدور المحوريّ إلّا لما تتضمّن من صفات قيميّة تدلّ في موضوعيّتها على أعلى مستويات الكمال البشريّ، وإلّا، لما رغب الشخص في اتّباع آخر أو اقتفاء آثار خصاله أو صفاته. ولأنّ هذا الدور جوهريّ وبنيويّ، فإنّ أيّ تغيير أو تحوّل أو استهداف للقدوة، سيترك آثاره السلبيّة على الهويّة تلك، وهذا يعني بصريح العبارة أن يصبح الفرد أو الجماعة مختلفين عن أنفسهم.

* القدوة: المعنى والدور
يُجمع أرباب البحث واللغة على أنّ القدوة تحمل في طيّاتها معانيَ ذات علاقة بالكمال وبما يرغب الشخص أن يحقّقه أو يصل إليه، وأنّها ترسم آمال الشخص وطموحاته، وتدفعه للجدّ والاجتهاد في الوصول، باعتبار أنّ الحيثيّات الخاصّة التي تمتلكها القدوة هي الآمال والطموحات التي يرغب الشخص في الوصول إليها. من هنا، فقد ذُكر في معنى القدوة أنّها: “لما يُقتدى به. وقيل أيضاً: والقدوة ما تسنّنت به”(1).

ويمكن تلخيص الدور الخاصّ للقدوة وأهميّتها في الآتي:

1. من أساليب التربية: القدوة من أبرز أساليب التربية، وبالتالي، صناعة الإنسان طبق موازين ومعايير خاصّة. وإذا أضفنا أنّ الحديث عن القدوة يجري في الكثير من الإيديولوجيّات؛ فإنّ ما تفرّدت به الأديان الإلهيّة هي القدوات صاحبة القيم الإلهيّة التي تدفع الإنسان إلى الكمال، باعتبار أنّ العديد من الإيديولوجيّات، بالأخصّ الوضعيّة منها، يدفع الإنسان نحو قيمها من دون تمييز بين قيم تأخذ الإنسان إلى أعلى مستويات الكمال وأخرى تهوي به إلى أحطّ من البهائم، لا بل تجعله كآلة وظيفتها الإنتاج فقط. ومن هذا المنطلق، فإنّ الاقتداء طبق المنظومة الإلهيّة نوع من رفع الإنسان إلى مستويات راقية(2).

2. التأثير في الآخرين: القدوة من أبرز أشكال التأثير في الآخرين، والسبب في ذلك ما يحمله الشخص في فطرته من ميل نحو الكمال. وتبرز معالم التأثير عندما يشاهد الشخص أنّ الصفات الكماليّة المتعالية قابلة للتحقّق وهي موجودة بالفعل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).

3. القيادة: للقدوة أهميّة على مستوى القيادة وتوجيه المقتدين نحو أهداف واضحة ومحدّدة، وهي اكتساب صفات حسنة.

4. الوصول إلى الكمال: للقدوة دور في دفع الفرد نحو تجنّب المنزلقات وأماكن الشبهات وموانع الكمال، على اعتبار أنّ طالب الكمال يعمل للوصول إلى مراتب المقتدى به، وهذا غير ميسّر من دون ترك الرذائل وما يبعد الإنسان عن الكمال.

* القدوة: التحدّيات الناعمة
أدرك أصحاب استراتيجيّة القوّة الناعمة، وبشكلٍ مبكر، أنّ التغيير والسيطرة كما قد يحصلان بالأساليب التقليديّة، فإنّهما يتحقّقان أيضاً، وتؤتى ثمارهما المرجوّة عن طريق الاستهداف الناعم، الذي تعدّدت أساليبه، إلّا أنّ التغيير بواسطة القدوة كان من أبرزها وأكثرها تأثيراً في المستهدَف للأسباب التي ذكرناها.

تنبّه منظّرو الحرب الناعمة إلى أهميّة التأثير الذي تتركه القدوة، فتحدّث “جوزيف ناي” صاحب النظريّة عن القوّة الناعمة والدور المطلوب منها، فاعتبر أنّها “القيادة بالقدوة”(3). وللعبارة دلالة في غاية الأهميّة، تنطلق من إمكانيّة السيطرة على الآخر والتحكّم فيه وبقراراته، ليس عبر القوّة الصلبة أو الإرغام، بل عن طريق آخر أكثر جاذبيّة وقدرة على الإقناع، وهو عندما تتمكّن من تجسيد قيمك ومثلك التي تريدها على صورة قدوة تحمل كلّ معاني الرفعة والنموّ والتقدّم الذي يَنْشُده الإنسان.

هنا، حاول “ناي” أن يحاكي الوجدان الإنسانيّ منطلقاً ممّا يرغب كلّ شخص أن يصل إليه، فاقترح تقديمه إلى الآخر على شكل قدوة. وكان “ناي” شديد الوضوح في الأهداف والنوايا التي ينبغي ويمكن أن تتحقّق عبر القدوة، فقال: “عندما تتمكّن من جعل الآخرين يُعجبون بمثلك ويريدون ما تريد، فإنّك لن تضطرّ إلى الإنفاق على العصي والجزرات لتحريكها في اتّجاهك”(4). وسنجد الفكرة عينها عند الكثيرين ممّن شغل بالهم كيفيّة استهداف الإسلام والمسلمين وتغيير معتقداتهم وقيمهم الدينيّة إلى أخرى تتماهى مع أهداف الغرب، والأمثلة حول ذلك كثيرة. وقد ركّز أغلب هذه المحاولات على بُعدين: الأوّل، ضرب نماذج القدوة عند الآخر، والثاني، إيجاد قدوات أخرى(5). وعليه، فإنّ استهداف القدوة يتطلّب استهداف كلّ ما يشكّل مصدر قوّة عند الآخر، ويدخل ضمن هويّة الأفراد كالشعائر والمناسك والقيم المعنويّة، والقائم على تبيينها “رجل الدين”. ويتمّ ذلك عبر أمور:

الأوّل: تدمير القدوة الموجودة عبر بثّ الشائعات، وإطلاق العنان للأكاذيب والاتّهامات الباطلة، التي تُسقط القدوة في نظر الأتباع. فيُشار بالسوء، على سبيل المثال، إلى من يمتلك أموال وعقارات، وتستهدف تلك الإشارات زهد القدوة وتقواها، أو أن تُنسب إليها أقوالٌ لم تتفوّه بها، أو أفعالٌ لم تقم بها إطلاقاً.

الثاني: صناعة قدوة تحمل في الظاهر قيم المستهدَف ومعتقداته، بهدف تشويهها وتقديم صورة سيّئة عنها. لذلك، لا يتورّع المعتدي عن صناعة رجل دين -هو ليس رجل دين في الحقيقة- ليمارس سلوكات تتعارض مع قيم الدين، أو ليؤسّس لأفكار وأفعال جديدة ينسبها إلى الدين وهي ليست منه. كما لا يتورّع المعتدي عن أن يروّج لامرأة مسلمة في الظاهر محجّبة، تأتي بسلوكات غير مقبولة أو تبتدع أفكاراً وتصرّفات جديدة تُنسب إلى الدين. وعلى هذا المنوال، فالعدوّ قد يلجأ إلى صناعة نوع كهذا من القدوة ويروّج له بأساليبه “الجاذبة” ليكون مؤثّراً عند الآخر، ثمّ يوكل إليه مهمّة استهداف القيم.

الثالث: لعلّ النموذج الأكثر تأثيراً في استهداف القدوة، أن يعمد المعتدي لصناعة قدوة تحكي عن قيمه وسلوكاته هو، يضفي عليها كلّ أسباب الجاذبيّة والانبهار، فيتّجه إليه الإنسان ظانّاً أنّه مراده المطلوب، فيتخلّى عن قدواته طلباً للأكثر كمالاً. وسبب الانبهار هذا، هو غياب الحقيقة وفقدان المعرفة الكاملة بالقدوة التي اتّجه نحوها أو تلك التي تخلّى عنها وتركها. والحقيقة أنّ القدوة التي تُصنع بهدف جذب الآخر وحذف قدواته الخاصّة، هي قدوة مليئة بالعيوب، لا تصلح للأفراد الآخرين، إنّما وجدت لتؤدّي دوراً محدّداً في عمليّة الحرب الناعمة والسيطرة على الآخرين.

* الأمريكيّ ونظريّة التغيير الناعم
هذا ما يصدق على الأمريكيّ بالكامل، وهو صاحب نظريّة التغيير الناعم عبر تقديم نماذجه الخاصّة “الجاذبة”، إلّا أنّها نماذج مليئة بالعيوب، ظهر فسادها وسقوطها، سواء داخل الولايات المتّحدة أو خارجها، وإلّا فكيف نقرأ حجم الإرهاب الأمريكيّ وممارساته البشعة ضدّ الشعوب الأخرى، لا بل ضدّ أفراد شعبه من أصحاب اللون المختلف؟!

في الحقيقة، إنّ الأمريكيّ صاحب الأطماع والمخطّطات الشيطانيّة، هو أكثر من لجأ إلى صناعة القدوات عبر ما يمتلك من ترسانة إعلاميّة وفنّيّة، وعبر سيطرته السياسيّة والاقتصاديّة،… وقد انطلق في كلّ ذلك من فكرة تفوّقه التي يعتقد بها، فقدّم نموذجه في مجالات عديدة، وهذّب مُثله ليتمكّن من التأثير في الآخرين. ولا غلوّ إذا ما ادّعينا أنّ الأمريكيّ لا يعارض الدين كممارسات فرديّة خاصّة، ولكنّه يرفض الدين الذي يُشكّل بقيمه ومعارفة نقطة انطلاق للفرد والمجتمع نحو التمسّك بقيم أخرى، قد لا تتيح للأمريكيّ فرض سيطرته ونموذجه.

* التحرّي العميق عن القدوات
أخيراً: بالإضافة إلى التمسّك بالقدوات وعدم التخلّي عنها؛ على الفرد أن لا يرتضي لنفسه أيّ قدوة من أيّ مكان أتت، دون الفحص في خلفيّاتها المعرفيّة والجهة التي تقدّم خدماتها لها. والحقيقة أنّ تدمير القدوات الأخرى لم يكن إلّا لأهداف لا تخدم الإنسان ولا الإنسانيّة، إنّما تتّجه لتخدم المخطّطات السلطويّة لمن يفكّر بالعولمة والقطبيّة الواحدة.

(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 17.
(2) لذلك كان الإنسان خليفة الله على الأرض.
(3) جوزيف ناي، القوّة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة، ص 25.
(4) المصدر نفسه، ص 12.
(5) ثمّة الكثير من الكتابات والمواقف التي تحكي هذا الاستهداف. راجع مقال: “قراءة في كتاب مؤامرة التفريق بين الأديان الإلهيّة”، موسى عبّاس، موقع إضاءات، نُشر بتاريخ 6/12/2019م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock