دينية

المجالسُ الحسينيّةُ فيضُ رحمة

(من خطاب الإمام الخامنئي دام ظله)
الشيخ علي متيرك

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبداً”(1).

لا شكّ في أنّ الحرارة تعبّر عن الشوق والارتباط، وعاشوراء الحسين عليه السلام كانت أنموذج العشق المتجدّد عاماً بعد عام، ومساراً تفجّرت معالمه، ووُضعَت خارطته سنة 61 للهجرة، وما زالت حرارة هذا الشوق تتعاظم مع تقادم الزمن، على عكس ما هو معهود من أنواع الارتباط الذي يُضعفِه تعاقب السنوات.

هذه الحرارة، تنعكس أثراً خارجيّاً كلَّ عام، في أيّام عاشوراء ومحرّم الحرام، بإحياء هذه الشعيرة الإلهيّة التي اتّحد فيها العقل مع الحبّ والعاطفة والحزن والبكاء، من خلال مجالس حسينيّة ومجالس لطم ومسيرات عاشورائيّة، وتتكشف خلالها الكثير من الألطاف الإلهية والمنافع والرحمات؛ لترشح فيما بعد قيماً ونهضةً وديناً وإيماناً وحياةً في مفاصل الأمّة كافّة.

* أهميّة إقامة العزاء الحسينيّ
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: “إنَّ الجانب العاطفيّ جانب مهمّ، ولهذا أُمِرنا بالبكاء والتباكي، وتفصيل جوانب الفاجعة، فلقد كانت زينب الكبرى عليها السلام تخطب في الكوفة والشام خطباً منطقيّة، إلّا أنّها في الوقت نفسه تقيم مآتم العزاء، وقد كان الإمام السجاد عليه السلام بتلك القوّة والصلابة ينزل كالصاعقة على رؤوس بني أميّة عندما يصعد المنبر، إلّا أنّه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه”(2).

لطالما كانت ثمّة دعوة إلى دراسة أساليب إحياء الذكرى، على قاعدة أنّ الإنسان يتنوّع في مؤثّراته تبعاً لتطوّر ثقافته وذهنيّته؛ إذ إنّ بعض المؤثّرات قد تكون خاضعة لمرحلة معيّنة، فلا تنفع في مرحلة أخرى، أو قد لا تتناسب مع الذهنيّة المخاطَبة في إزاء هذا التطوّر التكنولوجيّ السريع، وانفتاح المجتمعات على ثقافات وعادات، وتطوّر حركة الفكر الاجتماعيّ.

من هنا، دعا الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى التركيز على الثوابت العاشورائيّة التي ينبغي الاهتمام بها، وملاحظتها بشكلٍ دائم، وعدم تضييع الأصل في عمليّة الإحياء؛ إذ إنّ في تضييعه ضياع الغرض الأساس، والقضاء على هذه الواقعة التي حفظت الإسلام المحمّديّ.

* للمجالس الحسينيّة رشحات رحمة
ثمّة آثار خاصّة لإحياء هذه الشعيرة المقدّسة، وفوائد وثمار وألطاف إلهيّة جليلة، يرشح بها رحمةً وتوفيقاً على المجتمع الحسينيّ إذا تمسّك بوصيّة “إحياء الأمر”، وبحسب ما يطرحه الإمام الخامنئي دام ظله، فهي عديدة، منها:

1. عاطفة المجالس فيض معنويّ: إنّ عاشوراء ومراسم إحيائها في رؤية الإمام الخامنئيّ دام ظله، هي من أهمّ مميّزات الشيعة عن غيرهم من المسلمين؛ لما تُظهِره من فيوضات التعلّق والارتباط بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال ذكر مصائبهم وسرد مظلوميّتهم والتفاعل العاطفيّ معها. لذا، لا ينبغي الاعتقاد بعدم جدوائيّة العاطفة في زمن الفكر والمنطق؛ إذ ثمّة عُقدٌ كثيرة لا ينفع معها المنطق، ولا يحلّها إلّا العاطفة، وهذا بحدّ ذاته رحمةٌ للإنسان ولطفٌ به، ورعاية خاصّة للشيعة، إذ فُتح لهم هذا الباب الخاص؛ لاستثمار العاطفة. يقول دام ظله: “إنّ مراسم عزاء الإمام الحسين عليه السلام وفضل إحياء ذكرى عاشوراء، من أهمّ ما يميّز الشيعة عن سائر إخوتهم المسلمين، فمنذ أن أصبحت ذكرى مصيبة الإمام الحسين عليه السلام سُنّة يُعمَل بها، تفجّرت فيوضٌ ومعنويّاتٌ في قلوب محبّي أهل البيت عليهم السلام وأذهانهم، وما زالت تتفجّر إلى يومنا هذا، وستبقى كذلك بفعل ذكرى عاشوراء. فإحياء هذه الذكرى هو في الحقيقة عمل ذو فضل عظيم، ومن هنا، كانت مسألة البكاء والإبكاء على مصاب الحسين عليه السلام سائدة زمن أئمّتنا عليهم السلام. وينبغي أن لا يفكّر أحد بعدم جدوى البكاء، في زمن الفكر والمنطق والاستدلال، فهذا فكر خاطئ؛ لأنّ لكلّ شيء مكانه، ولكلّ سهمه في بناء شخصيّة الإنسان، العاطفة من جهة، والمنطق والاستدلال من جهة أخرى، فثمّة أمور كثيرة لا تُحَلّ إلّا عن طريق العاطفة والمحبّة، ولن يؤثّر فيها المنطق والاستدلال”(3).

2. تقوّي الارتباط بأهل البيت عليهم السلام: إنّ هذه المجالس ومراسم العزاء تُسهِم في تأجيج هذه العاطفة، وتحفّز عمليّة البكاء والتباكي. وإنّ إحدى أكبر الفوائد والرحمات التي تفيض بها هذه المجالس، هو زيادة هذه الرابطة العاطفيّة في قلوب الناس تُجاه أهل البيت عليهم السلام. لذا، كان على الخطباء أن يغتنموا هذه المجالس في زيادة العاطفة، بل يجب أن يحافظوا عليها، فلا تُشوّه بما من شأنه أن يُبعِد الناس عنها، وينفّرهم منها. يقول دام ظله: “إذا ما قمتم في هذه المجالس، لا قدّر الله، بما من شأنه إبعاد المستمع عاطفيّاً عن أهل البيت عليهم السلام، يعني نقلتم الواقعة بشكل يُبعِد المستمع عاطفيّاً عن أهل البيت عليهم السلام، عندها، ستفقد مجالس العزاء إحدى أكبر الفوائد التي قامت من أجلها”(4).

3. إحياء القيم الإلهيّة وحفظها: من أهمّ الرحمات التي تتجلى في إحياء هذه الشعيرة أيضاً -بحسب رؤية الإمام الخامنئيّ دام ظله- إحياء القيم الإلهيّة، وحفظها، فيقول: “إنَّ العزاءَ الحسينيَّ يعني إحياءَ القيمِ المعنويّةِ الإلهيّةِ، والمحافظةَ عليها”. ويقول أيضاً: “إنّها مناسبةٌ بالغة الأهمّيّة؛ محرّم شهر الإمام الحسين عليه السلام. إنّه شهرٌ حسينيّ، شهرُ تلك القيم كلّها التي تجلّت وتبلورت في وجود سيّد الشهداء عليه السلام، شهر الجهاد، وشهر الإخلاص، وشهر الوفاء، وشهر التضحية، وشهر القيام لحفظ الدين، دين الله، والوقوف مقابل القوى المعادية للدين. الوجود المبارك لسيّد الشهداء وأحداث عاشوراء ومحرّم وأمثالها هي مظهرٌ لهذه القيم”(5). من هنا، يدعو الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى المحافظة على مجالس العزاء التقليديّة، فيقول: “ثمّة أمور تقرّب الناسَ من الله ومن الدين، مجالس العزاء التقليديّة هذه تقرّب الناس من الدين، وهذا ما أوصى به الإمام الراحل قدس سره. إنّ الجلوس في المجالس والاستماع إلى العزاء والبكاء واللطم على الرؤوس والصدور والخروج في مواكب العزاء، كلّ ذلك يثير عواطف الناس تُجاه أهل بيت النبوّة عليهم السلام، وهذا أمر عظيم”(6).

4. وسيلةٌ للتطهير من الشبهات: يرى سماحته أنّ ثمّة جانباً رحمانيّاً كبيراً لهذه المواكب والمسيرات العاشورائيّة وأثراً بالغاً في تطهير البيئة الاجتماعيّة من الشبهات التي يبثّها الأعداء، وأنّ حالها حال المطر الذي يزيل أدران الأرض ويطهّرها، يقول دام ظله: “إنّ هذه المواكب الحسينيّة التي تتحرّك وتنشط في الأيّام العشرة الأُولى من شهر محرّم في كلّ عام هي كماء المطر الذي يجري على الأرض؛ فيطهّرها وينظّفها ويزيل الأوساخ والأقذار كافّة منها، وهكذا تلك المواكب، فهي تطهّر بيئتنا الاجتماعيّة من كلّ الوساوس والشبهات والتلقينات الفاسدة التي يبثّها الأعداء، وتُضفي عليها روحاً جديدة عابقةً بالعشق لله تعالى والإيمان به”(7).

5. تقدّم تيّار الإمام الحسين عليه السلام: يشير الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى فيض رحمانيّ آخر، يمتدّ مع الزمان ويشتد؛ وهو نضارة قضيّة الحسين عليه السلام وحيويّتها ومدى تعاظمها، وما تساهم به مراسمها في تقدّم تيّار الإمام الحسين عليه السلام. يقول دام ظله: “إنّ قيام سيّد الشهداء هو الذي حفظ الإسلام، كذلك فإنّ هذه الحادثة ازدادت حيويّةً ونضارةً يوماً بعد يوم، على مرّ القرون. وازدادت مراسم إحياء هذه الحادثة في الوقت الراهن، بالمقارنة بما كان قبل مئة سنةٍ -حيث لم يكن لتديّن الناس، بحسب الظاهر آنذاك، معارضون كمعارضي اليوم- حرارةً وجاذبيّةً وحماسةً واتّساعاً. هذا كلّه له معناه. هذا كلّه يدلّ على حقائق، وعلى تيّارٍ يسير ويتقدّم حاليّاً في العالَم، بقيادة الحسين بن عليّ عليهما السلام، وسوف يتقدّم أكثر، إن شاء الله، وسيكون فتحاً للآفاق وحلّاً لعقد مشاكل الشعوب”(8).

وهكذا، إنّ إقامة المجالس الحسينيّة والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام إنّما هو فعل يصبّ في صميم الارتباط بالإمام عليه السلام بشكلٍ دائم، وتهذيب السلوك وإحياء القيم، كلّ ذلك يبدأ بدمعة حبّ وولاء لسيّد الشهداء سلام الله عليه.

(1) الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 10، ص 318.
(2) من كلمة ألقاها دام ظله، بتاريخ 31/1/2006م.
(3) من كلمة ألقاها دام ظله بتاريخ 09/06/1994م.
(4) من كلمة ألقاها دام ظله بتاريخ 09/06/1994م.
(5) من كلمة ألقاها دام ظله، بتاريخ 19/09/2017م.
(6) من كلمة ألقاها دام ظله بتاريخ 09/06/1994م.
(7) من كلمة ألقاها دام ظله، بتاريخ 09/06/1994م.
(8) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 19/09/2017م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock