مقالات

حق الأم على الأبناء وآداب التعامل معها

هدی مرمر

الأمومة تلك المسؤولية العظيمة، المهمة والمقدسة، والفضيلة الملكوتية الكبرى التي حظيت بها المرأة وشرّفها بها بارئها، حيث أوكل إليها مهمة اختصت بالقرآن الكريم ألا وهي مهمة صنع الرجال كما يعبّر الإمام الخميني قدس سره. فمن حضنها يعرج العلماء والأدباء والعباقرة والبلغاء والمجاهدون والشهداء… إنّها أصل كل فخر وعزّ واستقامة وتكامل وتقدم وصلت إليه المجتمعات الإنسانية على مرّ الدهور والعصور.

 

* الحق العظيم للأم

عندما نقرأ في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام عن حقّ الأم، نراه عليه السلام يبيّنه على أنه من أكبر الحقوق على الابن، ويختصر عظمتها ومقامها بتلك الكلمات المعبّرة فيقول: “فحقّ أمك عليك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً ، وأنّها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها، وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك فرحة، موبلة (كثيرة عطاياها)، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاءً، وحجرها لك حواءً، وثديها لك سقاءً، ونفسها لك وقاءً، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك دونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه”. وكأنّ الإمام عليه السلام يريد من الإنسان دائماً أن يتذكر ولا يسهو عن هذا الحقّ العظيم للأم، ويعرف ماذا صنعت من أجله، وكم تحملت من العذابات والمرارات في سبيل سعادته!؟، وكم مرّت بمراحل ومصاعب تحملتها راضية مستبشرة، مذ كان جنيناً في أحشائها، وطوال فترة الحمل، حتى جاء على قدر وأخرجته يد القدرة الإلهية من عالم الرحم إلى عالم الدنيا ..؟!

 

من هنا، فإن (التعبير الرقيق الوارد في الحديث الشريف “الجنّة تحت أقدام الأمهات” حقيقة تشير إلى عظم دور الأم وتنبّه الأبناء إلى أنّ السعادة والجنّة تحت أقدام الأمهات، فعليهم أن يبحثوا عن التراب المبارك لأقدامهنّ، ويعلموا أنّ حرمتهنّ تقارب حرمة الله تعالى، وأنّ رضا الباري جلّت عظمته إنّما هو في رضاهنّ) كما يقول الإمام الخميني قدس سره(1). وبعد، فأيّ معروف يرقى إلى كلّ ما قدّمته، ومن يستطيع أن يفي الأم ساعة من سهر أو تعب أو ثقل أو ألم وعناء، أو يقدّم لها الشكر على ذلك؟. ذلك، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: “فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه”. فهذا الشكر يحتاج إلى تسديد وتأييد وتوفيق من العليّ القدير. ولعلّ ما نلاحظه في الروايات من مسافة واسعة بين حقّ الأم وباقي الحقوق وبين برّها وبرّ الأب، يؤكد عظمتها ومكانتها التي لا يمكن أن يصل إليها أحد، وأهمية طاعتها ورعايتها والاعتناء بها.

 

فيروى أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسأله: (من أبر؟)، قال صلى الله عليه وآله: (أمّك)، فسأله ثانية: (ثمّ من؟)، قال صلى الله عليه وآله: (أمّك)، فسأله ثالثة: (ثمّ من؟)، قال صلى الله عليه وآله: (أمّك)، فسأله رابعة: (ثمّ من؟)، قال صلى الله عليه وآله: (أباك)(2).  وقدم آخر على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: (يا رسول الله، إنّ والدتي بلغها الكبر وهي عندي الآن، أحملها على ظهري وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياء منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها بها؟  فقال صلى الله عليه وآله: (لا، لأنّ بطنها كان لك وعاء، وثديها كان لك سقاء، وقدمها لك حذاء، ويدها لك وقاء، وحجرها لك حواء، وكانت تصنع ذلك وهي تتمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحبّ مماتها)(3).

 

* آداب التعامل معها:

قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾(الإسراء: 23 – 24). وقال تعالى:﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ..﴾(لقمان: 14). يستفاد من الآيتين الكريمتين أمور وآداب يجب على الولد سواء أكان ذكراً أو أنثى الالتفات إليها في تعامله مع أبويه؛ وتلفت الآية الثانية إلى خصوصية التعامل مع الأمّ، وتذكّر الابن بما قاسته من أجله في حملها له، ومن ثمّ إرضاعه وتحمل تربيته. ويأتي في مقدمة هذه المعاملة “الإحسان”. فلقد قرن الله سبحانه الإحسان لها وللأب بتوحيده وعبادته.  وقد ورد في معنى الإحسان وتفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام: “أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين”(4) . فالإحسان يندرج تحته كلّ معاني العطاء والخير والمعاملة الحسنة للأم. فيجب على الابن أن يحرص على راحتها ورعايتها، والقيام بشؤونها، ولا يكلفها بعمل ما أثناء وجوده معها، بل يسارع إلى خدمتها وتأمين احتياجاتها دون الطلب منه، والنفقة عليها، خصوصاً عند العوز والحاجة، وتفقدها بشكل دائم وإظهار احترامها دائماً، كأن يقبّل يديها عند الدخول إليها، وأن يبتدئها بالسلام والسؤال عن صحتها وأحوالها… ويتمثل الإحسان أيضاً بجملة من الأمور التي ذكرها تعالى، ومنها:

 

– عدم نهرها وقول كلمة (أف) لها: الله تعالى نهى عن قول كلمة (أف) للوالدين ولو كان هناك شيء هو أدنى من هذه الكلمة لنهى عنه تعالى. فمن باب أولى على الابن عدم مخاطبته لوالدته بلهجة فيها توبيخ أو أمر أو نهي أو زجر أو صراخ في وجهها ساخطاً، حتى لو ضربته وأهانته، بل عليه أن يراعي حقها وأن يتقبل منها ذلك وأن يكون لطيفاً، هادئاً، لبقاً فيما يطلبه منها.

 

– القول الكريم: وهو الكلام الذي يعبّر عن احترام الأمّ وتقديرها وطاعتها وبرّها. وقد ورد في معنى القول الكريم عن الإمام الصادق عليه السلام: “إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك القول الكريم”(5).

 

– خفض جناح الذل من الرحمة: أيّ التذلل. والتذلل عادة يكون لربّ العباد، لكن هنا لعظمة منزلة الأمّ والأبّ طلب تعالى من الابن أن يتذلل لهما وكأنّه مكسور الجناح. يقول الإمام الصادق عليه السلام: “ولا تملأ عينيك من النظر إليهما ولا تقدم قدامهما ولا ترفع صوتك فوق صوتهما ولا يدك فوق أيديهما” (6). ويستفاد من الروايات أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان يخاف أن يأكل مع والدته؛ ولما سئل عن ذلك، قال: “أخاف أن يسبق نظرها إلى طعام فتقع يدي عليه فيكون عقوق منّي”. وهذا قمة التذلل والبرّ بوالدته عليه السلام.

 

– الدعاء: من حقّ الأم على الولد الدعاء لها. وهذا من أبسط حقوقها بعد كلّ الذي قدّمته من عطاء وتفان وإيثار في سبيل راحته وإسعاده. وقد علّمنا القرآن الكريم أن ندعو للوالدين على لسان بعض أنبيائه الكرام عليهم السلام، كدعاء النبي نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. ﴾ (نوح: 28) ودعاء نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ (إبراهيم: 41)  وهذا الدعاء لا يقتصر على حياتها، وإنّما يستمر بعد وفاتها، إضافة إلى الصلاة والحج والتصدق عنها وقراءة الفاتحة لروحها…

 

أخيراً:

إنّها وصية من ربّ العالمين خصّ الأم بها حتى يلتفت الأبناء إلى برّها والإحسان إليها وطاعتها. فيا أيها الأبناء: احفظوا هذه الوصية ولا تضيّعوها، ولا تنجرفوا وراء مشاغل الدنيا فتنسوها، ولا تنبهروا بحضارة زائفة غزت مجتمعاتنا وغيّرت قيمنا، ولا تدعوا أنماط الحياة الجديدة تحت عناوين التطور والتمدن تبعدكم عن أمهاتكم، فتلقوا بهنّ في مآوي العجزة ودور المسنين فتهملوهنّ، ويصبحن في عالم النسيان، يعانين الغربة والكآبة وقساوة الأيام، وتمتلئ عيونهنّ النورانية التي تفيض بالرحمة والعطف، بالحزن والدموع. فبرّهنّ عند الله أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد في سبيل الله، كما جاء في بعض الأحاديث. وبرّهنّ خير من كلّ متاع الدنيا الزائل، وما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.

 

(1) وصايا عرفانية للإمام الخميني قدس سره – مركز بقية الله – الطبعة الأولى 1998 ص 42.

(2) الكافي، – ج2، ص 166.

(3) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج21، ص436.

(4) الكافي، ج2، ص 157.

(5) المصدر السابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock