مقالات

السباب والشتيمة آفة العصر

تحقيق: غدير مطر

هل تشتم وتسبّ؟ هذا أوّل الأسئلة المطروحة للوقوف عند حجم ظاهرة تفتك بمجتمعاتنا، كيف لا، وهي تكاد تصبح عدوى اجتماعيّة تهدّد أمننا الثقافيّ بكلّ ما للكلمة من معنى؟ أيُعقل أنّ فاتن. م (ابنة الاثنى عشر ربيعاً) تلجأ للتفوّه بكلام لا تفقه معناه، بحجّة “تفريغ ما يعتريها من غضب عارم، نتيجة معركة صغيرة مع أختها”؟!

•”في حدا ما بسبّ؟!”
على الضفّة الأخرى، أشخاص يعبّرون عن غضبهم و”ظلم الدنيا والناس لهم” بالسُّباب “بينهم وبين أنفسهم” كوداد (38 عاماً)، التي تُبرِّر فعلها قائلة: “الدنيا قاسية لا ترحم”. بدوره كمال (40 عاماً)، الذي يشاطرها الشعور نفسه، يرى أنّه “يجب الالتفات إلى واقعنا الأليم اليوم، المليء بشتّى أنواع الضغوطات على المستويات كافّة، اقتصاديّة كانت أو اجتماعيّة…”.

أمّا سوزان. م (36 عاماً) فتردّ السؤال بآخر: “في حدا اليوم ما بيتعرّض لمواقف بتخلّيه يسبّ ويشتم؟”.

•”لا أتلفّظ بذلك، ولو على جثّتي”
من ناحية أخرى، هناك أناس استغربوا كيف “ندّعي الثقافة والالتزام الدينيّ، ولا نستطيع كظم غيظنا، ومداراة الآخرين، دون الوقوع في فخّ الشيطان ونزغه الواهي، ليصل الأمر بنا -والعياذ بالله- إلى حدّ المسّ بالذات الإلهيّة المقدّسة؟!”، تقول نسرين. ب (42 عاماً). وكذلك هما أمّ البنين. م (29 عاماً)، وريان. س (29 عاماً)، اللتان رفضتا هذا السلوك، وتقول إحداهنّ: “ولو على جثّتي؛ لأنّه عيب كبير، وأنا فتاة”.

•خوفاً من اختراق “التابو”
من جهته، يرى الطبيب المتخصّص بالأمراض النفسيّة والعقليّة د. فضل شحيمي، أنّه “في المخزون اللاواعي عند البشر، توجد مفردات وتعابير لا يفصح الإنسان عنها، ويعتبر البوح بها اختراقاً (للتابو)(1) الدينيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، فيُبقِي عليها محجورةً ولا يخرجها إلى دائرة الضوء حفاظاً على هذا (التابو)، وحفاظاً على سلوكه الحسن وتجنّباً للوقوع في الإثم والمعصية وخسارة محبّة وثقة واحترام المجتمع له”، مؤكّداً أنّ “هذا المخزون يختلف من حيث النوعيّة والدرجة من إنسان لآخر تبعاً للمجتمع الذي يعيش فيه ولثقافة الأسرة ومستواها العلميّ والثقافيّ والدينيّ والتزامها بالقيم ومبادئ الأخلاق والسلوك”. ويضيف د. شحيمي: “على الرغم من ذلك، نجد انفلاتاً في المجتمعات التي يفترض أن تصنّف في خانة المجتمعات الراقية أو المثقّفة، واختراقاً متمثّلاً بالسباب والشتيمة التي تصل إلى حدودها القصوى إلى شتيمة الذات الإلهيّة، والعياذ بالله” ويتابع: “مع الأسف، نجد في بعض الأحيان شريحة من الكبار البالغين الذين لم تتجذّر القيم المثلى في نفوسهم منذ الطفولة، يتصرّفون كالمراهقين، ويعبّرون عن غضبهم بالتحطيم والتخريب وبالسباب والشتائم دون وازع أو رادع، ليتحوّل الإنسان إلى منبوذ مكروه من قِبل الآخرين، ما يزيد من ردود أفعاله السلبيّة، فيزداد شراسة وتطرّفاً، ليتوقّف العقل عن عمله في بعض المواقف، ويُترك التحكّم للغريزة والانفعال العشوائي المدمّر”.

•السُّباب عدوى اجتماعيّة
يرى كثيرٌ من الناس ذوي الفطرة النقيّة، أنّ السُّباب والشتم هو مرض يصيب اللسان، ويجب اجتثاثه، وهنا نتساءل: كيف انتقلت عدوى السُّباب للآخر بحيث تصبح حالة في مجتمع ما؟!

تختلف الإجابات هنا، باختلاف الشخص المستصرح، فبالنسبة إلى وداد: “الحياة ومعاشرة الناس يعلّمان الكثير”، أمّا سوزان. م فتعاود اللعب بخفّة إجاباتها مصرّحة بطلاقة: “تعلّمت ذلك من محيطي، أهلي ومدرستي”، لتؤكّد الصغيرة فاتن. م ذلك: “بسمع إخواتي الشباب بقولوا هيك بس يكونوا كتير معصبين، ورفقاتي كمان..”. في التقصّي والبحث عن جذور هذه الآفة، يرصد د. شحيمي مسألتين أساسيّتين هما:

أ- المسألة التربويّة: التي لم تعمل فيها المنظومة التربويّة المتمثّلة بالأهل والمدرسة والمؤسّسات الدينيّة، مقابل تفلّت وسائل الإعلام، للجم هذه الآفة المخزونة في العقل اللاواعي، واستبدالها بشحن الناشئة بمنظومة القيم الأخرى.

ب- المسألة النفسيّة: إنّ حالة التوتّر والقلق وانسداد أفق المستقبل أمام الشباب، تتسبّب بتلف الكثير من الخلايا العصبيّة وزيادة نسبة الأدرينالين، ما يتسبّب بالغضب الشديد، فتنساب هذه المخزونات (الموجودة في اللاوعي) تلقائيّاً بطريقة سلبيّة، بحيث يصعب ضبطها أو تحويلها وإزاحتها، فتقع المشكلة، وبالتكرار تتحوّل إلى عادة سيّئة كباقي العادات. وهنا يأتي دور الوعي والاختيار، بمعنى أنّ الإنسان ليس منساقاً بشكل قصريّ تجاه انفلات مخزوناته، بل يمكنه أن يكبحها في البداية قبل تكرارها وتحوّلها إلى عادة، فحينها تحتاج إلى جهد أكبر للكبح.

•لغة الضعفاء والجهلاء
تعلّق فاطمة. م على مسألة السباب بسردها قصّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبناء الطائف(2)، مؤكّدة أنّ “السُّباب والشتائم هي لغة الضعفاء والجهلاء؛ لأنّ الإنسان القويّ هو من يحاور ويناقش، أو على الأقل من يكظم غيظه، فالسُّباب باب للشيطان بعد الغضب”. فيما تجاهد فاتن. ح (36 عاماً) لكبح غضبها عمّن يتعرّض لها بأيّ كلام غير لائق، وتلجأ “للبكاء بينها وبين نفسها، لتفريغ ما يعتريها من غضب”، مؤكّدة أنّ “هذه صفة اكتسبتُها من الصبر على الأذى والخطأ، على الرغم من أنّ حقّ الردّ ملكي”.

•مواقع التواصل ومعارك الألفاظ
في معرض الحديث عن هذا السلوك لا بدّ من التطرّق لما تفيض به مواقع التواصل الاجتماعيّ من “صولات وجولات” و”معارك خطابيّة”، تقدّم أطرافها بصورة فقيرة وأحياناً مفترسةً إن صحّ التعبير. ينفي أغلب المستصرحين “ردّهم على أيّ شتيمة أو سُباب عبر مواقع التواصل”، لما لذلك من انعكاسات سلبيّة قد تطال “المنظومة الأخلاقيّة التي تربّينا عليها”.

منهم شريف، الذي يرى أنّ تبادل السُباب “يورث الضغائن والأحقاد، والمؤمن ليس بذيء اللسان”. أمّا كلّ من الجوهري وفاطمة فيتّخذان من “رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته أسوة حسنة”، ويكون الردّ بمثل ما ورد “في دساتير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ؛ أي بالأحسن، أو على الأقل ﴿قَالُواْ سَلاَمًا﴾ (هود: 69)”.

•نصيحة.. بجمل!
أمام الخلل في التربية أحياناً، أو تشجيع بعض الآباء أطفالهم على تلفّظ كلمات “الكبار” النابية، أو تفلّت الإعلام الوقح وترسيخ هذه الألفاظ في مخزونات المشاهد وخزائن “اللاوعي”، مضافاً إلى رغبة الغاضبين الدائمين الظهور بمظهر سليط اللسان المسيطر دائماً، هل نحن ضحيّة دائمة لهذه الحالات؟!

ينصح د. شحيمي “الأهل بتعليم الأطفال كيفيّة السيطرة على ردود الفعل أيّاً كان نوعها، وعدم كبتهم أو كبحهم بطريقة قاسية، حتّى لا تتكوّن لديهم نقمة، تتحوّل فيما بعد إلى ردود فعل غير منضبطة، لا يستطيعون السيطرة عليها”. ويضيف أنّه “يجب أن ندرك كذلك أنّ الأهل هم القدوة، وإذا سقطت القدوة أفسحت المجال لتفلّت الغرائز، فالأهل الذين يثورون ويشتمون، ويحطّمون الأشياء والكرامات عشوائيّاً، لا بدّ من أن يقلّدهم الأطفال يوماً ما، وهذا التقليد الروتينيّ يتحوّل فيما بعد إلى طبيعة ثانية تتمثّل بالسلوك الشاذّ”.

ويوجّه د. شحيمي كلامه “للمعنيّين بهذه الآفة”، بتحذيرهم من “خسرانهم ثقة المجتمع بهم، وتطوّر هذه الآفة التي تصل في بعض الأحيان إلى حدّ جريمة القتل”. ويرى أنّه علينا أن نحسن أمرين اثنين:

أ- الحفاظ على مبدأ القدوة من قِبل الأهل، فنتصرّف بهدوء، ونتحكّم باختيار مفرداتنا عند الغضب.

ب- العمل على تربية وتنمية الجهاز العصبيّ عند أطفالنا، وتأمين مستلزماتهم من أجل ممارسة طفولتهم بطريقة هادئة سليمة.

ويختم بالقول: “في التعبير العامّيّ نسمع أنّنا نحصد ما نزرع، وينطبق ذلك، وعلى حدّ سواء، على التربية والتنشئة العائليّة”.

هذا على مستوى العائلة، يبقى على المعنيّين بالمؤسّسات الإعلاميّة والثقافيّة والتربويّة القيام بمسؤوليّاتهم تُجاه أجيال يحملون ألسنةً من… لهب.

1.التابو كلمة تُطلق على المحظور أو العيب في نظر المجتمع.
2.عند ذهاب رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام، وبعد رفضهم لذلك، صاروا يسبّونه ويصيحون به، وجعلوا يقذفونه بالحجارة، حتّى سالت دماؤه الشريفة على كعبَيه وتلوَّن النعل بالدم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock