دينيةمجتمعمقالات

مع الإمام الخامنئي: كمال الدين وتمام النعمة*

أُطلق على عيد الغدير اسم “عيد الله الأكبر”.. فهو أكبر الأعياد الموجودة في التقويم الإسلامي، وأعمقها معنى، وتأثيره أكبر من كلِّ هذه الأعياد. فوضع الأمَّة الإسلاميَّة ومسارها من حيث الهداية ومن ناحية الحكم قد تحدّد في حادثة الغدير هذه.

* الغدير قضية إلهيَّة
بديهيّ القول إنَّه لم يتم العمل بوصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في الغدير – وطبقاً لبعض الروايات كان الرسول قد أُخبر أنَّه لن يتم العمل بها – بيد أنَّ أهميَّة قضية الغدير هي في كونها قضية مؤشِّر ومعيار يستطيع المسلمون في كلِّ زمان أن يضعوه نصب أعينهم ويحدِّدوا وفقه المسار العام للأمة. قضية الولاية في أكثر الأزمنة حساسية لم تكن اختيار الرسول نفسه بل اختيار الله تعالى. جاء الوحي من الله أن: ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ (المائدة:67). وكانت هذه القضية واضحةً للرسول منذ بداية البعثة. ثمَّ كشفت الأحداث المختلفة طوال هذه الأعوام الثلاثة والعشرين الحقيقة وأظهرتها بحيث لم يبقَ أيّ موضع للشك. لكن الإعلان الرسمي يجب أن يتمّ في أكثر الأزمنة حساسية وبأمر من الله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (المائدة: 67)، أي إنَّ هذه رسالة إلهية يجب أن تلقيها على الناس. ثمَّ حين أوقف النبي المكرّم الناس في غدير خم بالقرب من الجحفة، وجمع قوافل الحجاج وأعلن عن هذه المسألة، نزلت الآية الشريفة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (المائدة: 3). اكتملت النعمة واكتمل الدين. في سورة المائدة المباركة وقبل آية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ﴾.. هناك الآية المباركة: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ (المائدة: 3).. اليوم هو يوم يأس الأعداء وقنوطهم، أي إنَّ المعيار والمؤشِّر قد اتَّضح، ومتى ما أرادت الأمَّة ومتى ما فتحت عينها على الحقيقة سوف ترى المؤشِّر والمعيار ولن يبقى لديها أيّ شك. هنا تكمن أهميّة الغدير. قضيَّة الإمامة والولاية كما جاءت في التاريخ الإسلامي قضيَّة إلهيَّة، لا أنَّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله انتخب الإمام علياً بحساباته الشخصية، مع أنَّ الحسابات الشخصيّة أيضاً ترشد أي إنسان إلى أنَّ الإمام علياً هو خليفة الرسول، إلا أن خطوة الرسول كانت خطوة إلهيَّة.

* شهادة من الله ورسوله
ولكن إذا أراد الرسول الأكرم أن ينتخب فمن الّذي كان يجب أن يختاره؟ الشخص الذي كان سيختاره النبي الأكرم طبعاً هو من تجتمع فيه كافَّة المعايير الأساسية للإسلام بحدودها الكاملة. العلم أحد المعايير، وفقاً لروايات جميع المسلمين – الشيعة والسنّة – يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حول الإمام علي: “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”،(1) فأية شهادة فوق هذه؟ وحول جهاد الإمام علي يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ (البقرة: 207)، هذه آية قرآنية نزلت في جهاد الإمام علي وإيثاره، ولم ينـزل مثلها في غيره. وحول إنفاق الإمام علي: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان: 8). والإمام علي وآله الأكرمون المقربون مشمولون بالآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55). وقد قال الجميع إنَّها نزلت في أمير المؤمنين. هذه المعايير – المعايير المتعدِّدة للتفوّق والتميّز في الإسلام – من علم، وتقوى، وإنفاق، وإيثار، وجهاد، وباقي المعايير الواردة في الإسلام، تنطبق كلّها على الإمام علي واحداً واحداً. من الذي بوسعه إنكار هذه الأمور في علي بن أبي طالب عليه السلام؟

* قضيّة الوحدة
دعوتنا لجميع مسلمي العالم هي أن يتأمَّلوا في هذه الحقائق. إنَّنا في عالم وحدة الأمة الإسلامية لا نصرّ أبداً على أن تقبل إحدى الفرق عقائد فرقةٍ أُخرى، لا، ليست الوحدة بهذا المعنى. الوحدة معناها التركيز على المشتركات على الرغم من العقائد المختلفة والشعب المتفاوتة، وعدم جعل مواطن الاختلاف سبباً للاقتتال والحرب والعداء بين الإخوة. هذه هي قضية الوحدة. ولكن من باب التعبير عن الحقيقة وطلب الحقيقة فمن المنطقي مطالبة جميع المسلمين بأن يبحثوا ويحقِّقوا ويلاحظوا ما كتبه باحثو الشيعة، وما جمعه علماء الشيعة الكبار في زماننا وكتبوه وحققوه وعرضوه في العالم الإسلامي، وقد حظيت كتاباتهم بتقدير علماء الإسلام ومثقفي الإسلام والشخصيات الإسلامية البارزة.. ليلاحظوا هذه الأعمال، ولا يحرموا أنفسهم ولا يقيّدوها. كُتُبُ المرحوم السيد شرف الدين العاملي رضوان الله عليه، هذه كلها حقائق جُمعت ودوّنت. قضية الغدير قضية تاريخية مسلّم بها في عشرات الكتب.. يروي المرحوم الأميني عشرات الطرق من طرق أهل السنة تروي حادثة الغدير بالشكل الذي نرويه نحن. هذا ليس شيئاً يوجد في كتبنا نحن فقط. في معنى كلمة “مولى” قد يناقش بعضهم وقد لا يناقش. الحادثة حادثة حقيقية وواقعية وهي عرض للمعايير. واضح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه آلاف التحية والثناء قمة سامقة سواء كحاكم إسلامي أو كفرد مسلم.

* علي عليه السلام النموذج الكامل
شباب هذا الإنسان الكبير نموذج لشباب الأمة الإسلاميَّة. ففترة شباب الإمام علي، وفترة كهولته وشيخوخته عليه السلام محفوفة بالامتحانات العسيرة والاختبارات العجيبة الغريبة، وقد أبدى في جميعها الصبر العظيم الجميل، وقدّم مصلحة الإسلام – حينما كانت مصلحة الإسلام في خطر – على كلِّ شيءٍ حتَّى على حقِّه المفروغ منه. كان بوسع الإمام علي حينما شعر بأنَّ حقَّه يُضيّع أن يثور، فهو لا يخاف من أحد. كان شخصاً إذا تقدَّم إلى الميدان فسوف يتَّبعه بعضهم بلا شك، ولكن “فأمسكتُ يدي حتَّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله”(3). يقول: وجدت حوافز تعارض أصل الدين وهي تكبر في القلوب وتنمو، وأنَّ ثمة أعداء ومعارضين يريدون انتهاز الظرف، لذلك نزلت إلى الساحة ودافعت عن أساس الدين وتنازلت عن حقي وتجاوزت. هكذا يراعي مصلحة الإسلام بكلِّ كيانه. وحينما جاء الدور للحكم والسياسة بحسب التقدير الإلهي، ينهال عليه الناس ويصرِّون عليه أن يُمسِكَ زمام السلطة، فينـزل إلى الساحة بكلِّ اقتدار “لا يخاف في الله لومة لائم”(4) لا يخاف أي شيء، ولا يثنيه أي لوم عن مواصلة هذا الطريق. أمير المؤمنين نموذج كامل. هذا هو الإنسان السامق الذي ترى له الشيعة كل ذلك المقام والمكانة. من المناسب أن تلاحظ الأمة الإسلامية كلها هذا.

حادثة الغدير حسب نظرة المرحوم العلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه صاحب كتاب الغدير، ومن ثمَّ في رأي المرحوم الشهيد مطهري رضوان الله عليه وسيلة لوحدة الأمة الإسلاميَّة. لا يظن بعضهم أنَّ حادثة الغدير سبب اختلاف، لا؛ لاحظوا أنَّهم يتهمون الشيعة اليوم أكثر من أيّ وقت رغم أنّ هذه التهم كانت في السابق أيضاً. ليلاحظوا أن التشيع نابع من عقيدة صحيحة سليمة خالصة تجاه الوحي الإلهي، هذا هو معنى التشيع، الاعتقاد بالقيم وبالمعايير، وجعل المعايير المنتهجة تلك التي اعتبرها القرآن الكريم معايير وملاكات. وهناك حفنة من المهرجين هنا وهناك في العالم الإسلامي يتهمون الشيعة بما هم بعيدون عنه. لا تتركوا الجدّ أيها الشباب الأعزاء! لا تتركوا العمل، لا تتركوا البصيرة ولا تتركوا الجهاد والسعي في سبيل الله. الإمام علي نموذجكم أيها الشباب. علم الإمام علي وتقواه وطُهره نموذج لكم فلا تتركوه.
1- الاحتجاج، ج 1، ص 78.
2- مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
3- نهج البلاغة، ص 451، الكتاب رقم 62.
4- بحار الأنوار، ج 68، ص 360.
5- شعار الحضور: الطاقة النووية حقنا المسلّم به.
* كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة عيد الغدير 6/12/2009.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock