دينية

لماذا سنشهد بداية عصر لم تعهده البشرية من قبل؟  

بداية عصر الأنوار

 

لماذا سنشهد بداية عصر لم تعهده البشرية من قبل؟

 

السيد عباس نورالدين

 

حين بعث الله حبيبه محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) كانت البشريّة تغطّ في سبات الجهل، ولم يكن ثمّة بقعة في الأرض إلّا وقد عمّها الجهل والتخلّف والرذيلة.. لقد كانت الدنيا كاسفةً مظلمة، لا أمل فيها ولا رجاء لأي نهضة أو حياة.

وقد أعلن الحقّ تعالى، أنّه قد بعث في الأمّيّين رسولًا ليعلّمهم الكتاب والحكمة، وصرّح هذا النبيّ المكرّم بأنّه قد بُعث بالتعليم، وأن الله أراده أن يكون معلّمًا؛ إلّا أنّ الأوضاع النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي سادت في ذلك الزمان كانت أبعد ما يكون عن إدراك هذا المعنى، فكيف بأن تستجيب له وتتفاعل معه؟!

في تلك الأيّام، ورغم أنّ الهدف الأسمى للدعوة النبويّة كان يرتبط بنشر العلم والتعليم وتأسيس مجتمعٍ قائمٍ على أساس العلم والحركة العلميّة، كان المسلمون الأوائل غير مستعدّين لهذا التحوّل. فقد كان جُلّهم أو معظمهم من الشيوخ والشيبة، وكان المرجوّ أن ينشأ جيلٌ جديد على القيم الدينية ويترعرع في البيئة الروحيّة، التي سعى هذا النبيّ العظيم لتأسيسها بعد إقامة أصولها السياسيّة والاجتماعيّة اللازمة.

إلّا أنّ هذه الدعوة الإلهيّة ومجتمعها الفتيّ سرعان ما واجها تحدّيًا كبيرًا، تمثّل بتسلّط حكومات بعيدة في سياساتها وأولويّاتها عن روحها وأهدافها؛ فاتّجهت جهودها وتمحورت حول الفتوحات العسكريّة وتحصيل المكاسب والغنائم.. وفي ظلّ هذه الوفرة العجيبة للثروات الوافدة على المسلمين، نشأت توجّهات مخالفة تمامًا لتلك الروح الأصيلة، وتشكّلت معها الطبقات الاجتماعيّة، التي جاء الإسلام للقضاء عليها. ومع ترسّخ الطبقيّة الجديدة، صار الإسلام أسيرًا للمصالح والمنافع الاقتصادية والحسابات المادّيّة، الأمر الذي يُعدّ أبعد ما يكون عن أصول دعوته ورسالته الروحيّة.

ولهذا، لم يكن مستغربًا أن تنشب داخل المجتمع الإسلاميّ حروب ومعارك على أساس الصراعات والحسابات المادية، وذلك مباشرة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيما عُرف بحروب الردّة، أو تلك الحرب الكبرى التي قادها زعماء طبقة الأغنياء ضدّ إصلاحات أمير المؤمنين عليه السلام وعدالته.

وباختصار، كانت أوضاع المجتمع الحديث العهد بالإسلام، قد آلت إلى أمور لا ترتبط بتاتًا بالعلم والمعرفة والحركة العلميّة المنشودة. وقد عانى الإمام عليّ (عليه السلام) ـ وهو باب مدينة العلم ـ وذاق كل أنواع المرارات بسبب إعراض المسلمين عن العلم والتعلّم؛ وسجّل التاريخ هنا كلمات عجيبة لهذا الإمام وهو يبيّن هذه المأساة.

وقد أصبحت الأمّة الإسلامية في مخاضاتها وتفاعلاتها الاجتماعيّة أمّة الأحزاب والفرق والمذاهب. فتمحورت كلّ أنشطتها حول هذا النوع من الصراعات والنزاعات. ومن هذه الأنشطة، كانت تلك الحركة العلميّة التي وصلت إلى أوجها في العصور العبّاسية. فالتشجيع والإغداق المنقطع النظير، الذي قدّمه العبّاسيّون للعلم، لم يكن سوى تدبير محنّك لتثبيت شرعيّة حكمهم ومواجهة علوم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام).

والجميع يعلم أنّ العباسيّين، إنّما جاؤوا إلى السلطة في الوقت الذي ضعُفت فيه سلطة الأمويّين، حيث استفاد الإمامان الصادقان (عليهما السلام) من تلك الفرصة لبثّ بعض المعارف الإسلامية الأصيلة، التي كان المجتمع بأمسّ الحاجة إليها. وقد رأى هؤلاء العبّاسيّون بأمّ العين شدّة تأثير هذه الحركة على صعيد جذب الناس إلى القادة الشرعيّين للأمّة. فلم يكن منهم إلّا أن بحثوا عن أي علم يمكن أن يقابلوا به علوم أهل البيت (عليهم السلام). وقد كان بعض الدُّهاة والمتربّصين والمخالفين الطبيعيّين للإسلام، جاهزين ليقدّموا كل أنواع خدمات الترجمة (فلا تعجب إذًا أن يكون أشهر مترجمي المخطوطات اليونانيّة من اليهود كما عُرف عن أسرة ابن ميمون).

ولا شك بأنّ حركة علميّة لا تنشأ من واقع الهداية والحاجات الواقعيّة لهي حركة ضالّة، ولن تكون ثمرتها ترسيخ الواقع العلميّ والروحيّة العلميّة في الأمّة. وهذا ما يفسّر انكفاء هذه الحركة بعد مرور عدّة عقود وزوال وهجها، لأنّها لم تكن حركة مرتبطة بهداية المجتمع وتوجيهه نحو العلم الحقيقيّ.

إنّ معظم الجهود العلميّة التي حصلت أبّان ما سُمّي بالعصر الذهبيّ، إنّما كانت وليدة النّزاعات والجدالات، وهي أشبه بردّة الفعل، من الفعل والسعي؛ ولهذا غلب عليها الطابع الجدليّ، الأمر الذي يُعدّ مناقضًا إلى حدٍّ كبير لطبيعة الإسلام الجماليّة، التي تأمرنا بالأحسن وتركّز على الإيجابيات في الأشياء وفي البشر. وهكذا سادت هذه الذهنيّة وسيطرت على العقول والأدمغة العلميّة على مدى القرون التي تلت، إلى الدرجة التي أصبح من شبه المستحيل أن نفهم الإسلام والدين دون الدخول من باب الجدل والنزاع وكبت الخصم. وفق هذه الرؤية ليس هناك سوى عدوّ للإسلام أو المذهب أو الرأي، لا بدّ من مواجهته وتفنيد آرائه.

وانتقلت هذه النزعة لتطال العلوم نفسها، فاشتهر النزاع بين الكوفيّين والبصريّين في النحو، وبين الفلاسفة والفقهاء في العقيدة، وبين الصوفيّين والفلاسفة في الوجود وهكذا.. وحين كنت تنتسب إلى أي حوزة علميّة، فلن تسمع طوال الوقت سوى الجدالات والنقاشات والإثباتات والردود.

لأكثر من ألف وثلاثمئة سنة، لم يتغيّر هذا التوجّه وبقي يصبغ معظم الجهود الفكريّة للمسلمين، إلّا ما رحم الله.

لكنّ أمرًا عظيمًا قد حدث بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران؛ فقد وجد العلماء أنفسهم أمام أنواع جديدة من التحدّيّات، وخصوصًا في الآونة الأخيرة، بعد أن استقرّ النظام الإسلاميّ واستتبّ الأمر لأهل العلم ليفكّروا بعيدًا عن السياق التاريخيّ للعلوم، التي اعتادوا على دراستها وتناولها. وتمثّل هذا التحدّي في أعقد غزو فكريّ وروحيّ عرفته البشريّة. إنّه ذلك الغزو الممتزج بالجمال، والذي لا علاقة له بالجدل والنزاع، ولا يستخدم أساليب الفلاسفة المجادلين ولا الفقهاء المتكلّمين، بل يعتمد على إبراز جمال الفكرة وجمال المعنى وجمال العرض.

فلأوّل مرّة في التاريخ تتصادم الثقافة الدينيّة للمسلمين مع ثقافة جماليّة إغوائيّة تخاطب القلوب وتغري الأرواح. وهي ثقافة ركبت أحدث وسائل العرض والبيان وأقواها، وهي تشعر أنّها بغنى تام عن المنطق والدليل والبرهان والعقل.

إنّها ثقافة تستجمع كل ما يمكنها من القيم الإنسانيّة وتغلّف بها أباطيلها وترّهاتها ومغالطاتها وشهوانيّتها وبهيميّتها وعبثيّتها وضلالتها وفسادها وانحطاطها، وتعرضها بأساليب تخاطب الوجدان والإحساس والمشاعر والفؤاد والخيالات والذكريّات.

وأمام هذا كلّه، يبدو أنّ بعض أهل العلم بدأ يبحث في جعبة الإسلام عمّا يمكن أن يواجه به كل هذه التحدّيّات والمخاطر، التي باتت عندها مخاطر المتكلّمين والتكفيريّين والمذهبيّين والشطّاحين كلعبة لا تلهي طفلًا صغيرًا. ولا شك بأنّ طبيعة المواجهة هنا ستتطلّب منهم أن يواجهوا جمال الباطل بجمال الحقّ، لأنّ الحقّ القبيح أو المغلّف بالقبح لا يمكن أن ينتصر على الباطل الجميل أي المغلّف بالجمال. ويبدو أيضًا أنّنا بتنا ندرك بأنّ هذا الجعبة لم تكن سوى فتحة صغيرة لكنوز تنوء بمفاتحها أولي القوّة العلميّة في حوزاتنا. فالإسلام كان ولا يزال دين الجمال، ودين الحبّ، ودين القيم العظيمة، وهذا هو جوهره وهذا هو معدنه ومنبعه.

ويبدو أنّ العالم كان ينتظر حصول مثل هذه المواجهة منذ زمنٍ طويل، عسى أن يعود المسلمون إلى ما بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأراد أهل بيته أن ينقلوه للبشرية ـ لكنهم مُنعوا وحوربوا وحوصروا وسُجنوا وقُتلوا. ثمّ جاء حفيدهم الخمينيّ ليثبت القضيّة، وكان قد أعلن عن حسرته وعظيم تفجعه في هذا الشأن حين قال:

“وأيّ مصيبة وغمّ أكبر من أن يكون لدى المسلمين متاع لا نظير له منذ بدء الخليقة إلى آخرها، ثم لا يستطيعون عرض هذه الجوهرة النفيسة التي يسعى إليها كل إنسان بفطرته السليمة، بل هم أنفسهم غافلون عنها وجاهلون بها، ويفرون منها أحيانًا”. [الوصية السياسية]

إنّنا على موعد مع عصر الأنوار الحقيقيّ، عصر النهضة، عصر العلوم، عصر القيم السامية التي ستُشاد على قواعد المنطق والأخلاق والفضيلة والسياسة الإسلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock