فكريةمجتمع

كيف نربّي أبناءنا على قيم الجمال

كيف نربّي أبناءنا على قيم الجمال؟

د. محمّد محسن علّيق*

قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7).

يعزّز الإسلام النظرة إلى الإنسان، باعتباره مخلوقاً إلهيّاً يتمتّع بميول فطريّة وعقل وجسد وروح وقابليّات وقدرات، تساهم جميعها في هدايته تكويناً وتشريعاً. والإنسان مسؤولٌ عن تربية نفسه وإيصالها إلى «الحياة الطيّبة»، وهي الهدف الأساسيّ لحركة الفرد والمجتمع.

هذه الحياة الطيّبة -التي هي نعمة إلهيّة يمنحها الله تعالى للإنسان بناءً على إيمانه وعمله الصالح المشار إليه في قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97)– لها مراتب متعدّدة وأبعادٌ متنوّعة، وإنّ شرط تحقّق التربية الإسلاميّة الصحيحة هو الاهتمام المتوازن والمنسجم بكلّ هذه الأبعاد.

* ما هي هذه الأبعاد؟ 
إنّ أبعاد الحياة الطيّبة هي في الواقع شؤون الإنسان المتعدّدة وحركته وهويّته وتكامله في المجالات المختلفة. وقد جرى تقريرها في فلسفة التربية الإسلاميّة باسم «ساحات التربية الإسلاميّة»، وتتناول المجالات: الأخلاقيّة والدينيّة، العلميّة والتقنيّة، الاجتماعيّة والسياسيّة، الجماليّة والفنيّة، البدنيّة والحياتيّة، وكذلك الاقتصاديّة والمهنيّة.

إنّ هذا التقسيم يُخرج التربية الإسلاميّة من النظرة التقليديّة، والتي تنحصر بالشأن الأخلاقيّ والعباديّ بالمعنى الضيّق، ويرسم لها إطاراً واسعاً ومتنوّعاً يشمل كلّ أبعاد حياة الفرد والمجتمع. واللافت للنظر هنا الإقرار بالشأن الجماليّ والفنيّ وإعادة الاعتبار له.

* مبادئ التربية الجماليّة في الإسلام 
1. تربية الإنسان مع الاختيار: هذه التربية الإسلاميّة وضعت التعقّل محوراً وإماماً هادياً لكلّ قوى الإنسان في مساره التربويّ، واعتبرت أنّه لا يوجد أيّ أثرٍ تربويّ ولا نتيجة تكامليّة في تشكيل هويّة المتربّي وتساميها ما لم يكن عمله قائماً على الوعي والاختيار والحريّة.

2. الجمال قيمة في كلّ المستويات:الجمال قيمة أساسيّة تُلحظ في كلّ المستويات؛ فهو من المظاهر الباعثة على سموّ الحياة البشريّة، وحبّه من الميول الفطريّة للإنسان. وإنّ الشأن الجماليّ والفنيّ يلحظ فعاليّة القوّة المتخيّلة ومدى الاستفادة من المشاعر والأحاسيس والذوق الجماليّ، أي القدرة على إدراك الموضوعات والأفعال ذات الجمال الماديّ والمعنويّ وتقديرها، وكذلك القدرة على خلق الآثار الفنيّة وتقديرها.

3. الجمال المطلق: اللّه: تشرح فلسفة التربية الإسلاميّة نظرتها هذه في بحث المباني القيميّة، لتؤسّس أصولاً وقواعد نظريّة وعمليّة، وصولاً إلى المناهج التربويّة وكلّ نشاط تعليميّ وتدريسيّ؛ فتقول إنّ اللّه سبحانه وفق الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، هو الجمال المطلق، ويحبّ الجمال، وله الأسماء الحسنى، وهو أحسن الخالقين، وقد خلق كلّ شيء على أحسن صورة، وأفاض على عالم الوجود أفضل حال من التناسق والانسجام، وكذلك فقد خلق اللّه سبحانه حبّ الجمال بشكلٍ فطريّ في وجود الإنسان، بحيث يشكّل الاهتمام بالأمور الجميلة الظاهرة والباطنة جزءاً مهمّاً من حياته.

4. التسامي بمشاعر الجمال: يُطرح في علم الجمال والفنّ الإسلاميّ مبدأ ارتقاء المشاعر التي تستشعر الجمال وتساميها، كي لا تبقى الجماليّات الحقيقيّة للحياة محجوبة خلف ستار الجماليّات الظاهرة.

الفنّ في الحقيقة هو مظهر إبداعات البشر، وعليه، فإنّ لمعرفته والاستفادة منه تأثيراً عميقاً في السير التكامليّ للإنسان نحو اللّه تعالى، لأنّه مسارٌ معنويّ متجرّد، يحتاج إلى ارتقاء خاصّ توفّره التربية الجماليّة. وقد نستطيع إضافة تعريف للتربية من زاوية علاقتها بالجمال لنقول: «إنّ التربية هي عبور مستمرّ للإنسان من مظاهر الجمال الحسّيّ الملموس نحو مظاهر الجمال الأرقى، أي المعقول والمعنويّ، وصولاً إلى الجمال المطلق، تحت هداية العقل وإدارته وإدراكه».

* إرشادات عمليّة 
لأنّ الطفولة هي المرحلة العمريّة الأولى التي يمرّ فيها أيّ شخص، وفيها تتكوّن شخصيّته بأبعادها المختلفة، فإنّه من المهمّ تقديم بعض الإرشادات العمليّة التي من شأنها أن تربّي الطفل على قيم الجمال، وذلك في المجالات الآتية:

1. في معارف الطفل:
أ. تعريفه على الصفات الجماليّة للّه، وأفعاله، وأسمائه الحسنى، بوصفها كمالات هذا الوجود، وعلى آياته الكبرى المدهشة في هذا العالم، وعالم الغيب، وعلى عظمته وقدرته المطلقة،… وليس التخويف من اللّه وانتقامه وعذاب جهنّم!

ب. التعرّف إلى الشخصيّات العظيمة (الأنبياء والأولياء والقادة والشهداء والمبدعين والأدباء)، وجمال شخصيّاتهم وبيانهم: «فإنّ الناس لو عرفوا محاسن كلامنا لاتّبعونا»(1).

ج. تربية الطفل على حبّ ذاته جسداً وروحاً، واكتشاف حاجاتها وأبعادها وتأمّلها بشكلٍ تدريجيّ متناسب مع مرحلته العمريّة (السبعة الأولى والثانية).

د. دفع الطفل ليكتشف بالتدريج مستويات الجمال وتفاضلها، إذ إنّ جمال المادّة أمر جيّد، ولكنّ لذّة العلم أو العطاء أجمل، فالمستويات متدرّجة ولا ينسف بعضها بعضاً، وما على الإنسان إلّا أن يختار الأعلى.

هـ. تعريفه على جماليّات اللغة العربيّة وروعتها؛ تمهيداً لبناء علاقة قويّة وتفاعليّة مع القرآن الكريم وجماله في اللفظ والمعنى، كتجربة جماليّة فنيّة راقية.

و. فتح الآفاق المتعدّدة أمام الأطفال للتعرّف على الهوايات والمواهب الفنيّة والأدبيّة بالتوازي مع تحبيبهم بجماليّات الأخلاق والتعقّل والقيم الإنسانيّة – الإلهيّة السامية، حيث إنّ الفنّ موهبة إلهيّة فاخرة هدفها أن تجعل الإنسان يفرح ويرتقي بها ويخدم البشريّة من خلالها.

ز. جعل الطفل يميّز بين مفهوم الأمر الجميل وذاك الغالي الثمن. فالهديّة مثلاً، وإن كانت وردة أو كتاباً أو ركعتي صلاة أو رسمة طفل، قد تساوي أضعاف أثمان الأغراض الثمينة ماديّاً، وخاصّة إنْ ترافقت مع المباهاة والتفاخر.

ح. إظهار جماليّات العبادات والأحكام الدينيّة وفلسفتها وأسرارها وآدابها بدل طرحها كتشريع لا مكان فيه للعقل والروح والكشف الإبداعيّ، فالإسلام منظومة جماليّة كبرى أرسلها الخالق الرحيم لسعادة الإنسان وحياته الطيّبة في الدنيا والآخرة: «جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء»(2).

ط. تقدير الأعمال الفنيّة والإبداعيّة، والمشاركة في الأنشطة الثقافيّة الجميلة، وتجنّب الأعمال الفنيّة الضعيفة أو الهابطة؛ لأنّها تُفسد الذوق الفنيّ والجماليّ عند الأطفال.

ي. الاطّلاع على الأفكار التربويّة الإسلاميّة الجديدة والأصيلة والمعاصرة (آراء الإمام الخامنئيّ دام ظله، الشهيد مطهريّ، العلامة مصباح اليزدي، العلامة جوادي آملي، وغيرهم)، التي تساعد الأهل الكرام أنفسهم على بناء هويّتهم وتكاملهم التربويّ، بالتالي، مساعدة الأبناء ودعمهم للاختيار الحرّ والعاقل للقيم الجميلة في كلّ أبعاد حياتهم.

2. في سلوك الطفل: 
أ. تربيّة الأطفال في سنواتهم الأولى (منذ الولادة وقبلها) على تمييز الجمال الحسّيّ الماديّ، كالأصوات الناعمة والألوان المتناسقة والروائح الطيّبة.

ب. إنشاء علاقة جماليّة مستمرّة بالطبيعة: البحر والسماء والأرض والحيوانات والنجوم والطيور وغيرها، وربطها كآيات بالمنعم الخالق المصوّر المبدع ذي الأسماء الحسنى.

ج. إحاطة الطفل بالجماليات؛ ليأنس ويعتاد على المحيط الجميل والتناسق في بيته وغرفته وأغراضه، وتشجيعه دوماً على خلق الأشياء الجميلة: تصرّف جميل، كلام جميل، رسمة جميلة، بالتالي، شكر المنعم من الخالق والمخلوقين على كلّ جميل وخير.

د. تجنّب الأجواء القبيحة ومشاهد العنف والقسوة، فهي تشوّه أذواق الأطفال (والكبار أيضاً) وتجعلهم يعتادون على القسوة والدمويّة والأجواء البشعة.

هـ. التركيز عمليّاً وبأساليب متعدّدة على ترسيخ القيم الإيجابيّة، من قبيل: حُسن الظنّ والتفاؤل، الإبداع والنشاط، خدمة الآخرين، الأمل في المستقبل، سرعة الرضى، المطالعة دوماً وفي مختلف المجالات، وجمال الرياضة والحركة.

ختاماً، هكذا يصبح الجمال عاملاً أساسيّاً وبنيويّاً في حركة الإنسان التكامليّة، والتي تمثّل التربية الإطار النظريّ والعمليّ لها، وبذا، يساهم الأهل بوعيهم في إنشاء جيلٍ على مستوى من الجمال في الأبعاد كلّها.

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة -كليّة التربية، وباحث في التربية الإسلاميّة.
(1) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 18، ص 66.
(2) مشهور على الألسنة بهذه العبارات، ولكن لم نعثر عليه في الكتب الروائية بهذه الصيغة، وما عثرنا عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّه تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ، ولَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ». (الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 494)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock