مقالات

مناسبة: الأخلاق التربوية في كلام الإمام الحسن عليه السلام

د. يوسف مَدَن

د. يوسف مَدَن

ثمّة أكثر من سمة أخلاقيّة أقرّها خطاب الإمام الحسن عليه السلام، تحقّق للأفراد صحّتهم النفسيّة والعقليّة. وقد وردت في توجيهاته عليه السلام نصائحه لأفراد مجتمع عصره، وللناس في زمانه، متحدّثاً عن مجموعة من القيم الأخلاقيّة، وضرورة تفعيلها في حركة الحياة، كي تحقّق الذات أمنها الداخليّ في الدنيا، وتجعل من أعمالها العباديّة حصناً آمناً لها في عالم الآخرة. وفيما يلي، سوف يتناول هذا المقال سِمَتيَ الزهد والصبر في كلام الإمام الحسن عليه السلام.

 

•السمة الأولى: الزهد

الزهد من السمات والقيم الأخلاقيّة الكبرى في خطابه الإنسانيّ عليه السلام، وقد عثرنا على بعض النصوص التي تلفت أنظارنا إلى أهميّتها في تربية الذات البشريّة، وتكوين سلوكها واتّجاهاتها ومشاعرها.

 

•من أقواله عليه السلام في الزهد كقيمة أخلاقيّة

1- “من عرف الله أحبَّه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتّى يغفل، وإذا تفكّر حزن”(1). فهذا النصّ يشير للزهد كسمة أخلاقيّة-روحيّة لها دور كبير في تنظيم الإشباع للحاجات، ويربط بينها وبين محبّة الله. فالزهد يعني أخذ ما يحتاجه الفرد من ملذّات الدنيا بمقدار ما يكفيه بطريقة حلال.

 

2- “واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك، واعلم أنّ في حلالها حساباً، وفي حرامها عقاباً،…”(2). فهذا النصّ يجعل من ضبط الحاجة إلى التملّك مدخلاً طبيعيّاً للسيطرة على إشباعها بالحلال، وتحذير الأفراد من إغراق النفس في شهوة جمع المال بالحلال والحرام على حدٍّ سواء.

 

3- “فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى، وخافوا الله في السرّ والعلن”(3). فالمال يفنى، وكلّ الأشياء التي يسعى الإنسان لتملّكها تفنى، فلماذا التمسّك بها إذا كانت فانية؟ فأصبح المنطقيّ الزهد فيها، والرغبة فيما يبقى كالأعمال العباديّة.

 

4- “يا بن آدم عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسَم الله تكن غنيّاً”(4)؛ فإذا كان الزهد كفّ النفس عن الإشباع الزائد في الشيء الحلال، فإنّ العفاف حركة النفس في تجنّب محارم الله وضبطها على الإشباع السويّ.

 

•المعاني التربويّة للزهد

لقد أراد الإمام الحسن عليه السلام تأكيد بعض المعاني التربويّة، وهي معانٍ ذات صلة بآثار سيكولوجيّة مؤثّرة بإيجابيّة على الوظيفة العباديّة للذّات المسلمة، ومنها:

 

1- تحقيق إشباع مناسب وسويّ وبمقدار الحاجة، فـ”الزاهد” ينظر إلى الحياة كمتاع عابر، ويعيش فيها بمفهوم قصر الأمل، ويكتفي عادةً بإشباع على قدر حاجته، وربّما إلى حدّ الكفاف.

 

2- تدريب النفس المؤمنة على تقبّل مبدأ الإحباطات المستمرّة والمتراكمة أحياناً في حياة الإنسان. فهو لا يصاب بإحباط لأنّه لا يجري وراء إشباع زائد عن حاجته، ولا يعتريه صراع(5).

 

3- تقبّل مبدأ ضبط الإشباع وتأجيله إلى حين اللحظة المطلوبة، ومواجهة الإشباع العاجل، والتخلّي عن الإشباع في اللحظة الحاضرة بانتهازيّة ونفعيّة لا تطابق محدّدات المشرّع التربويّ الإسلاميّ.

 

4- تمكّن الفرد من حسم حالة الصراع النفسيّ في داخل كيانه، وتهيئة نفسه لحالة رضى داخليّ يشعر فيها بغنى النفس.

 

5- تحرّر الزاهد نفسه من ضغط الشهوات، ومن سيطرة الاستجابات الخاطئة لحاجاته.

 

•السمة الثانية: الصبر

الصبر هو إحدى أهمّ مكارم الأخلاق في خطابه عليه السلام التربويّ، والثقافيّ، والأخلاقيّ. فهو قوّة روحيّة تتبنّى إرادة الفرد وتجعله يقاوم إحباطات الحياة وقسوة ظروفها.

 

•من أقواله عليه السلام في الصبر

1- قال عليه السلام حينما تحدّث عن مكارم الأخلاق: “الصبر عند المكاره”(6).

 

2- وقال عليه السلام وهو يحثّ المؤمنين أفراداً وجماعات على الجهاد: “اصبروا.. فإنّ الله مع الصابرين، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون”(7).

 

•الدلالات السيكولوجيّة والتربويّة للصبر

ثمّة دلالات سيكولوجيّة ترتبط بحياة الصابرين، وتصبغ أنفسهم، ومن هذه الدلالات التي استخلصنا مضمونها القيميّ والتربويّ من النصّين:

 

أولاً: تحليل النصّ الأوّل:

1- تضمّن النصّ الأوّل إشارة للصبر كـ”استجابة عقليّة وعاطفيّة”، ومكاره في الدنيا تواجه الأفراد كمثيرات وتحدّيات كالشهوات، والمحن والابتلاءات كالأمراض، والفقر، والحروب، والفتن الداخليّة، ومشاكل الأسرة والأبناء، وغير ذلك، وهذه المكاره تمثّل بالنسبة للناس تحديات في حياتهم، يضعف بعضهم عنها، ويقوى عليها آخرون.

 

2- يحقّق الإنسان الصابر ثباتاً عاطفيّاً، إذ يتمكّن من بلوغ مستوى ناضج من الاتزان الانفعاليّ يسمح للفرد المتّزن بالتعبير عن انفعالاته وهو في حالة “ضبط داخلي” لها حينما يواجــه مشاكــل الحياة ومصاعبها، فيصمد أمامها بالهدوء والثبات والتفكير الواقعي، وليس بالضعف، والهزيمة، والبكاء، والعويل.

 

3- الصبر هو سلوك يتمّ اكتسابه من تربية اجتماعيّة وروحيّة، والتدرّب عليه في وسط مثيراتها، أمّا الجزع فهو مشهد انفعاليّ يدلّ على سوء تكيّف الأفراد وعدم اتّزانهم، ولمواجهة هذه الحالة يتعلّم كلّ فرد كيفيّة التحكّم في انفعالاته وعواطفه والتدرّب على ضبط نفسه من التفاعل السلبيّ مع مثيرات الحياة ومصاعبها.

 

4- يقدّم الشخص الصبور نفسه في صورة جميلة للناس، حتّى وإن كان لا يقصد ذلك في داخله، فيكسب ثقتهم.

 

ثانياً: تحليل النصّ الثاني:

ومن الدلالات المستفادة من النصّ الأخير ما يأتي، وهي تعزّز الملاحظات التي سجّلناها في تحليلنا الأوّل.

 

1- لقد خصّ النصّ الثاني معالجته بقضية تقاعس الناس عن الجهاد، فأراد الإمام الحسن عليه السلام إثارة همّتهم الجهاديّة، وتنشيطها وتفعيلها لخدمة الأهداف التي تساند الدولة التي يقودها الإمام عليه السلام.

 

2- عرض النصّ نظرة علاجيّة واقعيّة، فإذا واجه الإنسان مشكلة ما، كتقاعس الناس عن جهاد أعدائهم، فليس الحلّ بالتبرّم، والضجر، والبكاء، والتململ، وإنّما بالصبر، حتّى لو كرهوا الحرب أو الفعل الذي يقومون به لنيل ما يرغبون وما يحبّون.

 

3- انطوى النصّ الكريم في آن واحد على عنصرين مهمّين هما التحفيز والتعزيز، فأمّا التحفيز فمهمّته إثارة دافعيّة الناس نحو العمل الجهاديّ وتحقيق النصر، وأمّا التعزيز فيتحقّق في النصّ بمحفّزات ثلاثة هي:

أ- الصبر ونتائجه المباشرة على الشخصيّة.

ب- عون الله للمجاهدين الصابرين في معاركهم مع أعدائهم وأعداء الدين.

ج- تحقيق النصر واستثمار نتائج الجهاد الإيجابيّة في النفوس.

 

4- إنّ قول الإمام الحسن عليه السلام إنّ الله مع الصابرين ليس من أجل رفع معنويّات المجاهدين فحسب، وإنّما لتأكيد الأجر الإلهيّ في يوم المعاد بعالم الآخرة.

 

وهكذا، إنّ الوظيفة التربويّة الأساسيّة لقيمتَي الزهد والصبر وفق ما طرحهما الإمام عليه السلام، ضرورة لبناء الشخصيّة الإنسانيّة.

 

(*)دراسات في الفكر التربويّ عند الإمام الحسن عليه السلام”، للدكتور يوسف مدن.

1.مقدّمة في الصحّة النفسيّة، عبد السلام عبد الغفار، حديث رقم 18، ص129.

2.(م.ن)، حديث رقم 12، ص28.

3.(م.ن)، خطبة رقم 3، ص15.

4.كشف الغمّة في معرفة الأئمة، الأربلي، ج2، ص198-199؛ وكتاب الروائع المختارة، (م.س)، خطبة رقم 7، ص19.

5.العلاج النفسي وتعديل السلوك بطريقة الأضداد، يوسف مدن، ص356.

6.الروائع المختارة، (م.س)، حديث رقم 92، ص141.

7.(م.ن)، حديث رقم 42، ص79.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock