مقالات

يسيرُ… والرحمةُ بين يديه

إعداد: هيئة التحرير
“بُورك من مولود عليه صلواتي ورحمتي وبركاتي”(1).

تميّز الإمام الحسين عليه السلام بخصال عدّة، منّها أنّه مظهر من مظاهر رحمة الله الواسعة، وبابٌ لنجاة الأمّة، وأنّ الدمعة عليه وزيارته والسلام عليه ولو عن بُعد، أمورٌ يثاب عليها الموالي غفراناً ورحمةً وحطّاً للذنوب. لكن يذكر المؤرّخون أنّ الرحمة كانت سمةً طاغية الظهور عند الإمام الحسين عليه السلام. يعرض هذا المقال مظاهر هذه الرحمة في شخصيته عليه السلام، وبروزها رحمةً في المساكين وفي مواساتهم وتعليمهم.

* رحمته بأصحاب الحوائج
1. لا يردُّ سائلاً: تشتهر قصّة آية الإطعام: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، (الإنسان: 8)، وفضل إيثار الإمام علي والسيدة فاطمة والإمامين الحسن والحسين عليهم السلام، وأنّهم أفطروا على ماء قراح مدة ثلاثة أيام متتالية. لكن الإمام الحسين عليه السلام كان طفلاً لم يتجاوز السابعة، وكان صائماً لنذر نذره والداه عليهما السلام بعد مرضٍ نزل به وبأخيه الحسن عليهما السلام، فهما طفلان صاما بعد مرض، وقدّما طعامهما اختياراً إلى مسكين ويتيم وأسير؛ لذلك فإن الآية الكريمة لا تتحدث عن إيثار بدرجة عادية، بل عن ظروف استثنائيّة خاصّة لا تكون محلاً للإيثار عادةً، بل يُبرر عدمه.

وتتتالى مشاهد البذل عند الإمام الحسين عليه السلام للسائل، فيروى أنّه كان يعطي السائل لمجرد أنّه أهدر ماء وجهه في السؤال إذا كان عن حاجة. يروى أنه عليه السلام أعطى سائلاً أتى إليه ألفي دينار، فأخذ يُحصيها، فقال له الخازن: بعتنا شيئاً؟ أجاب السائل: ماء وجهي، فقال الإمام الحسين عليه السلام: “صدق، أعطه ألفاً وألفاً وألفاً، الأول لسؤالك، والألف الثاني لماء وجهك، والألف الثالث لأنّك أتيتنا”(2). فقد رأى الإمام الحسين عليه السلام أنّ سؤال السائل بنفسه موجبٌ لإعطائه في المقام الأوّل، وأكرمه لشعوره بذلّ السؤال ثانياً، وأنّه قصد الإمام الحسين عليه السلام دون غيره، ثالثاً.

2. لا يُطيل وقوف سائل: يروى أن رجلاً قصد الإمام عليه السلام وأعطاه رقعة كتب عليها حاجته، ما يُشير إلى حياء الرجل عن الكلام، فقال له عليه السلام: “حاجتك مقضيةٌ قبل قراءتها”. فتمهّله أحد الحاضرين قائلاً: “يابن رسول الله، لو نظرت في رقعته ثمّ رددت الجواب على قدر ذلك”، فقال عليه السلام: “يسألني الله تعالى عن وقوفه بين يدي حتى أقرأها”(3).

3. حياؤه عليه السلام عند البذل: روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أنّ سائلاً قرع باب الإمام الحسين عليه السلام وهو يقول:
لم يخب اليوم من رجاك ومن

حرّك من خلف بابك الحلقة

فأنت ذو الجود أنت معدنه

أبوك قد كان قاتل الفسقة

فخرج الإمام عليه السلام إلى الأعرابي، فرأى عليه أثر ضرٍّ وفاقة، فرجع ونادى بقنبر (…) قال عليه السلام: “ما تبقى معك من نفقتنا؟” قال: مائتا درهم، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك، فقال عليه السلام: “هاتها فقد أتى من هو أحقّ بها منهم”، فأخذها وخرج يدفعها إلى الأعرابي وأنشأ يقول:

خذها فإنّي إليك معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا عصا تمتد

كانت سمانا عليك مندفقة

لكن ريب الزمان ذو نكد

والكفّ منّا قليلة النفقة

فأخذها الأعرابي وولّى وهو يقول:

مطهّرون نقياتٌ جيوبُهمُ تجري

الصلاةُ عليهمُ أينما ذُكروا(4)

4. صونه كرامة السائل: قد يُشتبه على القارئ أنّ في فعل الإمام عليه السلام تشجيعاً لسؤال الناس وإهدارهم ماء الوجه والكرامة، لكن الإمام عليه السلام كان يُوضّح ذلك للسائل ويعلمه صيانة نفسه، فإن وجده محقّاً أعطاه وقضى له حاجته. يروى أنّ رجلاً سأل الإمام الحسين عليه السلام أن يعطيه مالاً، فقال عليه السلام: “إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح، أو فقر مدقع، أو حمالة مفظعة” فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهن. فأمر عليه السلام له بمائة دينار(5).

كذلك بيّن الإمام عليه السلام أنّ من صيانة النفس التوجه إلى أصحاب المروءة لا إلى غيرهم. يُروى أنّه عليه السلام قال لرجل من الأنصار ذي حاجة: “يا أخا الأنصار، صُن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإنّي آت فيها ما (هو) سارك إن شاء الله”، فكتب: يا أبا عبد الله إنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألحّ بي، فكلمه أن يُنظرني إلى ميسرة، فلما قرأ (الإمام) الحسين عليه السلام الرقعة، دخل إلى منزله، فأخرج صرّةً فيها ألف دينار، وقال عليه السلام له: “أمّا خمسمائة فاقض بها دينك، وأمّا خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا إلى أحد ثلاثة؛ إلى ذي دين أو مروّة أو حسب، فأمّا ذو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروّة فإنّه يستحيي لمروّته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردك بغير قضاء حاجتك”(6).

* المعروف على قدر المعرفة
كان عليه السلام يرحم أصحاب الحوائج وينفذ من باب سؤالهم إلى تعليمهم. يروى أنّه عليه السلام كان جالساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان جالسين كلٌّ في ناحية مختلفة، فجاء أعرابيّ فقال لعتبة: إنّي قتلت ابن عم لي، وطولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فأعطاه زيادة عن طلبه، فقال الأعرابي: “ما أريد إلا الدية تماماً” ثم تركه، وأتى عبد الله بن الزبير وقال له مثل ما قال لعتبة، فأمر له بزيادة، فتركه، فأتى الإمام الحسين عليه السلام وسأله، فقال له عليه السلام: “نحن قوم لا نعطي المعروف إلا على قدر المعرفة”، فقال: سل ما تريد، فقال عليه السلام: “ما النجاة من الهلكة؟ قال: التوكل على الله عز وجل، فقال عليه السلام: وما الهمّة؟ قال: الثقة بالله، ثم سأله الحسين غير ذلك، وأجاب الأعرابي، فأمر له عليه السلام بعشرة آلاف درهم، وقال له هذه لقضاء ديونك، وعشرة آلاف درهم أخرى تلمُ بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق منها على عيالك”(7).

* رحمته عليه السلام بالمهموم والمغموم
روي أنّ من عاداته عليه السلام عيادة المريض، واقتفاءه حاله ومشكلته وقضاء ما عليه، ومنها أنّه دخل على أسامة بن زيد وهو محتضر ليعوده، فقال: واغماه، فقال عليه السلام: ما غمّك يا أخي؟ فقال: دينٌ عليّ ستون ألفاً، فقال عليه السلام: عليّ قضاؤها، قال: أحب أن لا أموت مديوناً، فأمر عليه السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه”(8).

* رحمته عليه السلام بالمساكين ومواساتهم
روي أنّه عليه السلام مرّ بمساكين يأكلون كسراً من الخبز(9)، فدعوه لمشاركتهم، فنزل عليه السلام عن جواده وقال: “إنّ الله لا يُحب المتكبرين”، فتغدّى معهم، ثم قال لهم: “قد أجبتكم، فأجيبوني”، قالوا: نعم، فمضى بهم إلى منزله، وقال للرباب: “أخرجي ما كنت تدخرين”(01).

* الإمام الحسين عليه السلام رحمة الله
من أبرز تجليات الرحمة في شخصه عليه السلام أنّه اختار أن يكون شفيعاً للأمّة بدرجة لا ينالها إلا بالشهادة، وما ترتب على ذلك من مشقّات والآم وتحمّل الفجائع، حتى أنّه عليه السلام ابتسم لقاتل أتى إليه لقطع رأسه الشريف، ووعظه وأنقذه من ضلاله. هي درجة خاصّة من الرحمة بالناس ظهرت في إغاثته 72 ملهوفاً يوم الطفّ، وأبسطها بمسحه رؤوس الأيتام عوض أن يصعقهم بخبر شهادة آبائهم؛ رحمةً بأفئدتهم الرقيقة.

السلام عليك يا رحمة الله الواسعة.

(1) ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 142.
(2) التستري، الخصائص الحسينيّة، ص 22.
(3) المصدر نفسه، ص 22.
(4) ابن عساكر، تاريخ دمشق، نقلاً عن: السيد الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص 579.
(5) الحراني، تحف العقول، ص 246. والغرم: أداء شيء لازم كالدين. والفادح: الصعب والثقيل، المدقع: الملصق بالتراب وهو تشبيه لحال الفقر الشديد، والحمالة: حمولة يتكفل بدفعها كالدية والغرامة والكفالة.
(6) المصدر نفسه، ص 247.
(7) السيد المرعشي، شرح إحقاق الحق، ج33، ص627.
(8) التستري، مصدر سابق، ص 25.
(9) يراجع: السيد الأمين، مصدر سابق، ج1، ص 580.
(10) ابن عساكر، مصدر سابق، ج13، ص 54.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock