مقالات

“إنّني أتحـــرّك طبقاً للتكليف الإلهيّ”

الشيخ موسى منصور

“إِلهي، كفَى بي عِزّاً أنْ أكونَ لكَ عَبْدَاً”(1). إنّ منتهى الآمال وغاية المنى أن يكون المرء عبداً لله، والعبوديّة تتحقّق بالطاعة من خلال فعل الواجب وترك الحرام، وهذا ما يعبَّر عنه بأداء التّكليف الشرعيّ.

ويُعدّ الإمام الخمينيّ قدس سره من أبرز المصاديق التي حملت لواء أداء التّكليف، على مستوى تشخيصه وامتثاله وحثّ الناس عليه. وإن تتبّعنا قضيّة أداء التكليف في سيرة الإمام قدس سره، لأدركنا الكثير من خلفيّات قيامه وقعوده ونفيه وسجنه وتشريقه (العراق) وتغريبه (فرنسا)، ولوقفنا على حقيقة سرّ انتصاره؛ ألا وهي ذوبانه في طاعة المولى عزّ وجلّ. وهذا ما ستتناوله هذه المقالة.

أوّلاً: تميّز الإمام قدس سره في أداء التّكليف
برزت عند الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة خصائص في أدائه للتكليف، منها:

1. تحديد الأولويّات: لو تزاحمت الواجبات، ينبغي تقديم الأهمّ على المهمّ. والفقيه البصير هو من يشخّص التّكليف الأَولى. ولهذا، كان الواجب الأهمّ بالنسبة إلى الإمام قدس سره –قبل انتصار الثورة- هو إسقاط الشاه. وعندما شكا له أحد علماء جبل عامل تهجير الجنوبيّين جرّاء الاجتياح الإسرائيليّ الأوّل للبنان؛ كان ردّ الإمام قدس سره حاسماً وواضحاً: “يجب أن يسقط الشاه”. ولاحقاً صرّح هذا العالم: “بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، والدعم الكبير الذي وصل من الإمام قدس سره إلى لبنان، علمت ماذا كان يقصد الإمام قدس سره حينها”.إنّها البصيرة ووضوح الرؤية التي أتاحت له إدراك التّكليف الأَولى؛ لأنّ إسقاط الشاه سوف يمهّد الأرضيّة المناسبة لمقاومة الاستكبار وحماية المستضعفين في العالم.

2. الشجاعة: وهي التي ظهرت عند الإمام قدس سره في مواقف كثيرة، منها قوله: “إذا ما رأيت أنّ مصلحة الإسلام تقتضي في وقت ما أن أقول كلاماً ما، فإنّني سأقوله وأصرّ عليه، ولا أخشى من أيّ شيء -بحمد الله تعالى- والله إنّني لم أخف لحدّ الآن، وفي اليوم الذي اعتُقلت فيه، كان الأزلام هم الخائفين، وقد حاولت أنا تهدئتهم”(2).

ومن الشواهد على ذلك أيضاً قوله: “أذكر حينما مارسوا ضغطاً لتغيير الزيّ العلمائيّ السائد في الحوزات، قلت لأحد العلماء من أئمّة المساجد: إذا أجبروك على تغيير زيّك فماذا ستفعل؟ قال: ألازم المنزل ولا أغادره. قلت له: لو أجبروني أنا وكنت إماماً لمسجد، فإنّي سأذهب في اليوم نفسه إلى المسجد…”(3).

3. الثبات والصمود: في مقام أدائه للتكليف؛ نلمس من الإمام قدس سره صموداً بغير حدود ومهما كلّفه الأمر، وهو القائل: “الخمينيّ لن يساوم حتّى لو أعدموه”(4)، و”لن أغيّر موقفي أبداً حتّى لحظة واحدة، فهذا تكليف شرعيّ”(5).

4. أداء التّكليف هو الدافع: إذا أردت أن تعرف لماذا قام الإمام أو قعد أو تكلّم أو سكت؛ فالتمس الحكم الشرعيّ المنوط به، يقول سماحته: “وقد أجبت كلّ من جاء إليّ يطالبني بالتحرّك الهادئ وبالوسطيّة، وقلت لهم: إنّ لدينا تكليفاً إلهيّاً، والأمر ليس منوطاً بي حتّى أتساهل فيه، ليس بيدي أنْ أتحرّك ببطء، إنّني أتحرّك طبقاً لتكليف إلهيّ”(6).

5. المهمّ هو أداء التّكليف: ما يهمّ الإمام قدس سره بالدرجة الأولى هو أداؤه للتكليف، بصرف النظر عن النتائج. يقول سماحته: “ليس مهمّاً عندي أين أكون، المهمّ هو العمل بالتّكليف الإلهيّ…”(7). وبهذا، فهو مؤمن بالقاعدة التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام: “لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَك”(8).

6. توسيع دائرة التّكليف: إنّ الإسلام الذي يقتصر على العبادات الفرديّة هو إسلام مريض، وعافيته تكمن في توسعة دائرة العبادات لتشمل نواحي الحياة وجوانبها كافّة، ولهذا، نلاحظ أنّ الإمام قدس سره أضاف إلى قائمة التكاليف بعض العناوين التي لم تكن سائدة في عصره، وسوف نذكر بعضاً منها:

أ. حراسة الإسلام: “تكليفكم الأعلى هو أن تحرسوا الإسلام…”(9).

ب. القيام لله: “نحن قيامنا لله، وأنتم يجب أن يكون قيامكم لله”(10).

ج. خدمة الناس: “لا أظنّ أنّ ثمّة عبادة أفضل من خدمة المحرومين”(11).

د. إقامة الحكومة: “إنّنا مكلّفون بمواصلة الثورة… حتّى إقامة حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة”(12).

هـ. جهاد التبيين: “أنتم جميعاً مكلّفون شرعاً بكشف حقائق الأمور ومواجهة هذه الدعايات الإعلاميّة التي أُثيرت وتثار في الخارج… عرّفوا كلّ من التقيتم به حقيقة الأوضاع في إيران…”(13).

و. تحرير القدس: “وإنّ تحرير القدس واجب مقدّس على جميع المسلمين…”(14).

ثانياً: سياسات وضوابط أداء التّكليف
“التكاليف الإلهيّة هي ألطاف إلهيّة”(15)، فإذا تكرّست هذه النظرة؛ يعشق العبد طاعته لربّه، ويكون مصداقاً للحديث القائل: “أفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَشِقَ الْعِبَادَةَ”(16). وقد حدّد سماحة الإمام قدس سره مجموعة ضوابط وإرشادات لأداء التّكليف، منها:

1. الاعتماد على الله: “قوموا بالحراسة بالاعتماد على القرآن الكريم، بالاعتماد على ذات الحقّ تعالى المقدّسة، بالاعتماد على صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف…”(17).

2. لسنا مسؤولين عن النتائج: كان الإمام قدس سره كثيراً ما يشير إلى هذا الأمر: “كلّنا مأمورون بأداء التّكليف والواجب، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج”(18). ويقول أيضاً: “يثير بعضهم الاعتراضات باستمرار قائلين: لقد قدّمتم كلّ هؤلاء القتلى، فما الذي تحقّق؟ إنّ هذا هو تكليفنا الشرعيّ”(19).

3. الثبات مقابل التحدّيات: “إنّنا لسنا… أفضل من سيّد الشهداء عليه السلام، الذي عمل بتكليفه وقُتل، ونحن أيضاً نعمل بتكليفنا. ولذلك، فإنّه لا ينبغي لنا أن ندع المجال للوهن يتسرّب إلينا من جرّاء هذه المكروهات التي تواجهنا”(20).

4. إتقان العمل: “كلّ شخص مكلّف بعمل؛ يجب عليه أن ينجز عمله في أحسن وجه، فالتقصير في العمل، والبطالة، والتحريض عليها، كلّ ذلك كالسمّ القاتل”(21).

5. وحدة الكلمة: “فاليوم ليس يوماً يصحّ فيه العمل بتفرّق، إذا كنتم متفرّقين، فستظلُّون على هذه الحال حتّى النهاية، بل سيسوء حالكم كثيراً. إنّه تكليف إلهيّ يحتّم عليكم أن تكونوا معاً”(22).

ثالثاً: آثار العمل بالتّكليف
من أهمّ آثار الطاعة استدرار الرحمة الإلهيّة، يقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران: 132). وفي الآيات والروايات ما ينصّ على الكثير منها، وقد تعرّض الإمام الخمينيّ قدس سره لهذا الأمر، وذكر جملة من هذه الآثار، هذا بعضها:

1. السعادة: “فإذا نحن عملنا تكليفنا واستيقظنا وفهمنا أنّ علينا أن نسير إلى الله، ونجاهد في سبيله، ونقوم له، وأن نعمل في جميع أبعاد حياتنا بتكاليفنا التي حدّدها الله لنا؛ فإنّه سينتهي بنا إلى السعادة”(23).

2. التسديد الإلهيّ: “إنّ الله معكم، وبأدائكم لواجبكم فإنّه سيسدّد خطاكم”(24).

3. النصر النهائيّ: “ولو فرضنا التعرّض لهزيمة ظاهريّة، فإنّ الفتح النهائيّ هو لأهل التقوى والعاملين بمسؤوليّاتهم”(25).

4. العزّة والمنعة: “مسؤوليّة جميع المسلمين أن يكونوا فعّالين في معارضة الظلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أنّ جميع الناس عملوا بهذا التّكليف، لما تمكّنت حكومة من الاعتداء على شعبها، ولا تمكّنت دولة من الاعتداء على دولة أخرى”(26).

5. الاستقلال والحريّة: “احرصوا على أداء واجباتكم الدينيّة، لأنّ جميع ذلك لصالحكم. وإذا أوثقتم علاقتكم بالله، فسينصركم ويسدّد خطاكم ويرفع عنكم جميع الشرور ويجعلكم مستقلّين وأحراراً”(27).

ختاماً: لقد كان أداء التكليف حاضراً بقوة في نهج الإمام قدس سره وفكره وسيرته، ويصح القول: إنّ ما تحقق على يديه من إنجازات عظيمة؛ كان ببركة حرصه الشديد على أداء التكليف في أصعب الظروف، وبصرف النظر عن النتائج.

(1) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص 400.
(2) الإمام الخمينيّ قدس سره، الكلمات القصار، ص82.
(3) صحيفة الإمام قدس سره، ج 2، ص 210.
(4) الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 81.
(5) صحيفة الإمام قدس سره، مصدر سابق، ج5، ص121.
(6) المصدر نفسه، ج 6، ص 153، من كلمة له في ممثّلي نقابة الكتّاب الإيرانيّين، بتاريخ 20 ربيع الأوّل 1399هـ.ق.
(7) الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 81.
(8) نهج البلاغة، ص 554.
(9) صحيفة الإمام قدس سره، مصدر سابق، ج8، ص292.
(10) المصدر نفسه، ج 8، ص 16.
(11) الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 79.
(12) صحيفة الإمام قدس سره، مصدر سابق، ج6، ص299.
(13) المصدر نفسه، ج 5، ص 78.
(14) المصدر نفسه، ج 5، ص 127.
(15) المصدر نفسه، ج 3، ص 222.
(16) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 83.
(17) صحيفة الإمام قدس سره، مصدر سابق، ج7، ص144.
(18) الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 15.
(19) صحيفة الإمام قدس سره، مصدر سابق، ج5، ص20.
(20) المصدر نفسه، ج 7، ص 45.
(21) المصدر نفسه، ج 12، ص 16.
(22) المصدر نفسه، ج 3، ص 353.
(23) المصدر نفسه، ج 10، ص 178.
(24) المصدر نفسه، ج 2، ص 65.
(25) المصدر نفسه، ج 2، ص 65.
(26) المصدر نفسه، ج 3، ص 216.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock