مجتمع

حساسية موقع القدوة عند الأجيال

لا شك أن التدخل التربوي او التوجيهي من جانب الاهل أو المربين يفترض اعتماد الطريقة الملائمة وفي الوقت المناسب لتقديم “القدوة الايجابيةً او التمهيد للابتعاد عن “القدوة السلبيةً. والاسلوب المعروف هو الحوار والاقناع. وما ينبغي مناقشته هنا هو الاسلوب التربوي الشائع في كثير من المؤسسات التربوية والعائلية حتى قبل مرحلة المراهقة. إذ ينبغي بالنسبة لنا ان ندمج بين الحوار مع الطفل او حتى المراهق وبين الحزم لتنفيذ ما يطلب منه. لأن الحوار في مرحلة الطفولة هو لتنفيذ الأمر تحت سقف الحزم وليس تحت سقف استمرار الحوار الى ما لا نهاية،حتى يقتنع الطفل بما سيقوم به. فماذا نفعل على سبيل المثال لو لم نتمكن من إقناع الطفل بالقيام بما ينبغي؟ الحزم هو الذي سيساعد على تنفيذ الأمر في هذه المرحلة كما سيساعد على تقبل التوجيه نحو القدوة الايجابية في مرحلة لاحقة . لذا نحن لا نستطيع ان نترك المراهق يفعل ما يشاء او ان ينجرف خلف تجربة كل شئ. التدخل ضروري لمنع هذه الانجراف من جانب الاهل ومن جانب كل من هو في موقع المسؤولية والقدوة.

يمكن ان نلاحظ ايضاً على المستوى التربوي كيف تتشكل القدوة كفكرة او كمثال اعلى من خلال ما هو مألوف من تشجيع الاهل والمعلمين الابناء والتلاميذ على الاقتداء بالناجحين. لأن ما يريده هؤلاء في هذه المرحلة من العمر هو النجاح المدرسي والتفوق. وهذا أمر ايجابي ولا يمكن الاعتراض عليه او مخالفته. لكن الوجه الآخر لهذه المسألة لا يكمن فقط في احتقار الفشل والابتعاد عنه بل في ما يدعو اليه البعض من احتقار الفاشلين انفسهم الذي لم يتمكنوا من النجاح والتفوق. في هذه الحالة تخسر قدوة النجاح الكثير من مضمونها الاخلاقي. لأن المطلوب في حالة مماثلة ان يفهم الابناء والطلاب شروط النجاح وان يعرفوا شروط الفشل. وأن يطمحوا الى ان يكونوا من الناجحين وان يبذلوا الجهد حتى لا يكونوا من الفاشلين. لكن ذلك لا يفترض ان يؤدي الى احتقار الفاشلين على المستوى الانساني والاخلاقي. فللفشل اسباب كثيرة قد تكون خارجة عن ارادة الانسان، مثل الفقر والمشاكل العائلية وضعف القدرات الذهنية، وسواها… ولذا ينبغي ان نربي الاولاد ليس فقط على قيم النجاح بل وعلى قيم مد يد العون لمن هو بحاجة الى المساعدة لأنه لم يتمكن من النجاح مثلنا. وهذه الفكرة هي قدوة نضعها امام ناظري الابناء والتلاميذ. وبهذا المعنى ان ما تفعله الكثير من المدارس حول اعلان نسب النجاح التي تبلغ عادة نسبة المائة في المائة هي حافز وقدوة سواء للمدارس الأخرى في إطار التنافس الايجابي وفي اطار تشجيع الطلاب على النجاح كقيمة وقدوة لا يمكن التفريط بها في المراحل الدراسية كافة. لكن الوجه السلبي لهذه القدوة هو ما يجري في بعض تلك المدارس عندما تقوم بمنع الطلاب ذوي المستويات المتوسطة من تقديم الامتحانات الرسمية مع اقرانهم المتفوقين. او عندما تعزل هؤلاء في صفوف خاصة وتفصلهم عن رفاقهم الذين قضوا معهم سنوات طويلة خلال المراحل الدراسية. بحيث نصبح امام تمييز واضح بين القوي والضعيف. فنعزل الضعيف ونترك القوي في مواقعه. القدوة هنا هي في هذا السلوك الذي تقوم به المدرسة التي تساهم من حيث لا تدري في وأد روح التعاون بين المستويات المعرفية-الدراسية المختلفة (المتفوق والمتوسط والضعيف…). أي ان على القوي –المتفوق- بحسب هذا المنطق الا يلتفت الى الضعيف والا ينتظره والا يفكر بما سيفعله لأنه لن يراه امامه. فما هي القدوة التي نربي الاولاد عليها في مثل هذه الحالة؟ هل هي قدوة التفوق فقط ام هي ايضاً وفي الوقت نفسه قدوة الترفع والتعالي والابتعاد عن الضعيف وعن من يحتاج الى مد يد المساعدة؟ فأي قدوة يقدم الصف ومن خلفه ادارة المدرسة لتلامذته في هذه الحالة؟ وماذا يمكن ان نتوقع من هؤلاء ان يفعلوا في المجتمع؟ سوف يكونوا على الارجح الى جانب الاقوياء وسوف يبتعدوا عن الضعفاء بدلاً من أن يكون نجاحهم وتفوقهم فرصة لمساعدة الآخرين ولمد يد العون الى الضعفاء والى الوقوف بجانبهم. إن القدوة التي تقدم في هذه الحالة ليست شخصاً او فرداً بل هي فكرة وهي بيئة من التصرف ومن الممارسة وهي قيم سلبية نربي الأولاد عليها، ولكن تحت راية وقدوة النجاح والتفوق…! وهذا أحد اوجه القدوة بوجهيها السلبي والايجابي من الناحية التربوية. ولعل ما يجري على هذا المستوى متأثر بتلك القدوة / الفكرة المهيمنة التي نشرتها العولمة المعاصرة والتي جعلت البقاء للأقوى ثم تحولت عنه الى البقاء للأسرع. بمعنى اننا نقتدي هنا بفكرة القوة التي لا ترحم والتي تسحق من هو اضعف والتي لا تعترف بأي بعد أخلاقي أو بأي رحمة في العلاقات بين الناس أو بين القوي والضعيف… القدوة الفكرة أكثر خطورة لأننا لا نرى من نقتدي به. في حين ان القدوة الشخص أكثر وضوحاً، ويمكن ان ننتقل منه الى شخص آخر عندما يخيب أملنا من هذا الشخص. لكن القدوة الفكرة أكثر تعقيداً وليس من السهل ان نلاحظ كيف تصبح هذه الفكرة قدوة لنا ، ولا كيف تمارس نفوذها علينا، ولا كيف يمكن التخلص منها والانتقال الى سواها…

إن خطورة القدوة واهميتها في الوقت نفسه تكمن في مرحلة الشباب. ففي الطفولة على سبيل المثال ستقتصر القدوة على الوالدين، ثم على المدرسين لاحقاً. ونادراً ما يتعرض الطفل لقدوة سلبية في هاتين المرحلتين الأسرية والمدرسية. وحتى عندما يحصل ذلك فإن الأثر السلبي سيقتصر غالباً على الطفل نفسه. أما في مرحلة الشباب فإن التعرض للقدوة بوجهيها السلبي والايجابي هو أوسع بكثير واحتمالاته متنوعة ومتعددة: من الأصدقاء الى المؤسسات التعليمية ومن المؤسسات الثقافية والسياسية، الى المؤسسات الدينية والفنية وغيرها… بحيث يتجاوز أثر القدوة الفرد الشاب الى المجتمع بأسره، خصوصاً وان الشباب هم أهم قوة تغيير في أي مجتمع من المجتمعات…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock