مجتمعمقالات

خطر المنظمات الدوليّة في تغيير شكل الأسرة

د. غادة عيسى دقيق

ممّا لا شكّ فيه أنّنا في زمن تتعرّض فيه الأسرة إلى شتّى أنواع التهديدات والتحدّيات؛ فمن حيث التأسيس، ثمّة تأخّر ملحوظ في سنّ الزواج، إن لم نقل عزوفاً عنه أحياناً. ومن حيث الاستمراريّة والديمومة، نلاحظ تزايداً كبيراً في الخلافات الزوجيّة ونسب الطلاق، ولا سيّما المبكر. أمّا على صعيد التربية والإرشاد، فهنا الطامّة الكبرى؛ إذ نعيش انهياراً شديداً لدور الأهل وسلطتهم على أولادهم، وذلك تحت راية حقوق الإنسان وحقوق الطفل وحمايته من العنف، ولا سيما المنزليّ.

 

بيد أنّ التهديد الأكبر والأخطر، الذي يطال الأسرة اليوم، يتمثّل بالدعوة إلى تغيير شكلها، وتعديل دورها، في إطار ما تنادي به الأمم المتّحدة عبر وثائقها واتّفاقياتها الدوليّة.

 

وفي هذا المقال، سنكتفي بتسليط الضوء على دور المنظّمات الدوليّة (الأمم المتّحدة وفروعها ووكالاتها) في تغيير شكل الأسرة، وخطر ذلك.

 

الأسرة في أدبيّات الأمم المتّحدة

مرّت رؤية الأمم المتّحدة للأسرة وأشكالها بمراحل عديدة؛ ففي المرحلة الأولى، جاء الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في عام 1948م؛ ليعرّف -في المادة السادسة عشر منه- الأسرة أنّها الوحدة الجماعيّة الطبيعيّة والأساسيّة للمجتمع، وأنّ الرجال والنساء البالغين لهم الحقّ في الزواج، وفي تكوين أسرة، دون أيّ قيود بسبب العرق أو الجنسيّة أو الدين.

 

هذا التعريف، الذي يحتوي في طيّاته اعترافاً ضمنيّاً بالزواج بشكله الطبيعيّ المألوف بين امرأة ورجل، تلاشى فيما بعد لتأتي غالبيّة الاتّفاقيّات والمواثيق الدوليّة المعنيّة بالمرأة، خاليةً من أيّ إشارة إلى مصطلح الأسرة؛ فهي تناولت المرأة كفرد مقتطع من سياقه الاجتماعيّ، وإذا ذكرته (أي مصطلح الأسرة) جاء ذكره هامشيّاً في سياق المطالبة بتحديد النسل، أو في سياق تقييد صلاحيّة الآباء في تربية الأبناء وتوجيههم، أو في سياق آخر هو في منتهى الخطورة؛ وهو ضرورة الاعتراف بوجود أشكال أخرى للأسرة، وهو ما يعني الاعتراف بالشذوذ وتقنينه، وإعطاء الشواذّ الحقوق نفسها التي يتمتّع بها الأسوياء، من ضمانات اجتماعيّة، والحقّ في الزواج والميراث والحصول على الخدمات الاجتماعية كافّة، وغيرها.

 

تعدّد أشكال الأسرة

تعمل المجتمعات الغربيّة على تغيير شكل الأسرة؛ حيث بدأت تُظهر أشكالاً جديدة لها نتيجة التغييرات الاجتماعيّة، مثل تراجع نسبة الزواج، مقابل إباحة الزنى، أو بسبب انتشار الطلاق، وما إلى ذلك من عوامل فرضت وجود نمط جديد من الأسر، وهو ما يُعرف بأسرة الوالد الواحد، أو أسرة الأمّ العزباء، أو الأسرة التي تنشأ نتيجة زواج بين شاذَّين، وغير ذلك من الأنواع التي بدأت المجتمعات والدول الغربيّة تتقبّلها، بل تطالب بحقوقها وبتعميمها على المجتمعات كافّة. وبهذا، يتمّ الإبقاء على الشكل مع إفراغ محتواه، أو استبداله بمحتوى آخر، فظلّت التسمية (أسرة) ولكنّ المعنى مختلف، حيث صارت تعني: “جماعة تتكوّن من شخصين أو أكثر، يرتبطون معاً برباط الميلاد أو الزواج أو التبنّي، ويقطنون معاً”(1).

 

هذا، وتعدّ الأممُ المتّحدة المروّجَ الأوّل والداعم الأبرز لهذا النمط من الأسر؛ إذ طالبت بتعزيز وجود الأسر اللانمطيّة، ودافعت عن حقّها في الحصول على الحماية، وطالبت الحكومات بتشريع ما تسمّيه “كلّ أشكال الأسرة”، وبتقديم الحماية لها.

 

فقد ورد في مؤتمر السكّان الذي عُقد في “مكسيكو سيتي” عام 1984م: “تعترف خطّة العمل العالميّة للسكّان بالأسرة -بأشكالها المتعدّدة– باعتبارها الوحدة الأساسيّة للمجتمع، وتوصي بإعطائها حماية قانونيّة. والأسرة مرّت -ولا تزال تمرّ- بتغيّرات أساسيّة في بنيتها ووظيفتها”(2).

 

وجاء في تقرير المؤتمر العالميّ الرابع المعنيّ بالمرأة أنّه “توجد أشكال مختلفة للأسر في الأنظمة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المختلفة”(3).

 

كذلك أشارت وثيقة مؤتمر القاهرة للسكّان عام 1994م، إلى الزوج والزوجة مع تعدّد الأنماط البشريّة، وقد تُرك اللّفظ على عمومه وغموضه، إرضاءً للجماعات التي تُطالب باستحداث زواج بين الجنس الواحد.

 

حتّى وثائق الطفل لم تسلم من هذه الرؤية؛ فتأتي وثيقة “عالم جدير بالأطفال” عام 2002م لتبرز المعنى ذاته –تعدديّة أشكال الأسرة– حينما طالبت الوثيقة الحكومات بـ “مراعاة أنّ الأسرة تتّخذ أشكالاً مختلفة باختلاف النظم الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة”(4).

 

الأمم المتّحدة ومشروعيّة الشذوذ

وهكذا، أقرّت الأمم المتّحدة في العديد من مواثيقها وتقاريرها وجود أشكال متعدّدة للأسرة؛ بما يعني إقرار العلاقات غير الشرعيّة، سواء بين النساء والرجال، أو بين الجنس الواحد من الرجال أو النساء، وهذا ليس إلّا دعوةً واضحةً وصريحةً لإقرار الشذوذ وتقنينه. من هذه المواثيق:

 

1 – بيان النروج: ناقشت الأمم المتّحدة حقوق الشواذّ ومساواتهم بالآخرين للمرّة الأولى عام 2006م، بغضّ النظر عن ميولهم الجنسيّة، حين تقدّمت النروج ببيان مجمّع في المفوضيّة السامية في الأمم المتّحدة، حول انتهاك حقوق الإنسان بناءً على التوجّه الجنسيّ، نيابة عن 54 دولة(5).

 

2 – قرار دول جنوب أفريقيا: وفي حزيران 2011م، أصدرت دول جنوب أفريقيا قراراً في مجلس حقوق الإنسان يطالب المفوضيّة السامية بإصدار تقرير يوثّق القوانين التمييزيّة، وممارسات العنف ضدّ الأفراد بسبب توجّهاتهم الجنسيّة، لمتابعة تطبيق إعلان فيينا ومنهاج العمل، وقد تمّ تمرير القرار بـ33 صوتاً في مقابل 19 صوتاً معارضاً، وامتناع 3 دول عن التصويت. وقد كان القرار الأوّل من نوعه تاريخيّاً(6).

 

3 – تقرير المفوّض السامي: وفي تقريره لعام 2015م حول القوانين والممارسات التمييزيّة، وأعمال العنف الموجّهة ضدّ الأفراد، على أساس ميولهم الجنسيّة، طالب المفوّض السامي لدى الأمم المتّحدة الحكومات بتغيير القوانين الجنائيّة، بحيث لا يصبح الشذوذ الجنسيّ جريمةً، ما دام ارتكاب الشذوذ برضى الطرفين، والإنهاء الفوريّ لأيّ مقاضاة لهؤلاء الشواذّ، مع إلغاء سجلّاتهم الجنائيّة التي تدينهم بهذا الفعل، والسماح للشواذّ بطلب اللجوء(7).

 

4 – قرار منظّمة العفو الدوليّة: وفي هذا السياق، اعتبرت منظّمة العفو الدوليّة أنّ الأشخاص الذين يُعتقلون ويُسجنون لسبب وحيد هو مثليّتهم الجنسيّة، هم سجناء رأي، ودعت إلى الإفراج عنهم فوراً، وبلا قيد أو شرط(8).

 

5 – خدمات وبرامج: لا تكتفي الأمم المتّحدة بإرغام العالم على قبول الشذوذ، بل وصلت بها الجرأة إلى إرغام الدول على توفير خدمات الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة لهم. وكذلك التدخّل في أنظمة التعليم، بحيث توضع برامج لمنع مضايقة الشواذّ بالقول أو بالفعل، بل وإنشاء خطوط مساعدة لهم، بحيث يتمكّنون من طلب المساعدة عند تعرّضهم للمضايقات.

 

6 – استشارة الشواذّ: ولعلّ التوصية الأخطر والأوقح من توصيات تقرير المفوّض الساميّ لعام 2015م المذكور سابقاً، تتجسّد في الفقرة (ح)، والتي تدعو الحكومات إلى “ضمان استشارة الأشخاص ومنظّمات الـ (9)LGBT والخنثى intersex فيما يتعلّق بالتشريعات والسياسات التي لها تأثير على حقوقهم”، فبدلاً من فرض العقوبات على أولئك الشواذّ (باستثناء الخنثى باعتباره ليس شاذّاً)، يوصي التقرير بأن يصبح هؤلاء مرجعيّة استشاريّة في التشريعات والسياسات التي تمسّهم!

 

7 – أمن الشواذّ وسلامتهم: لم تقف الأمم المتّحدة عند هذا الحدّ، بل قامت لاحقاً بتعيين خبير متخصّص(10) في إرساء القواعد التي تسمح للشواذّ بالاستمرار في ممارسة شذوذهم في أمان وسلام. وبذلك، أصبح أمن الشواذ وسلامتهم من أهمّ الأولويّات لدى الأمم المتّحدة، التي من أجلها تُنفَق الأموال، وتُعقَد المؤتمرات، ويوظّف الخبراء. فأيّ خراب تنتظره الإنسانيّة على يد هؤلاء، بعد العبث في الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها؟!

 

الهدف: إفساد الأسرة

تناولت الأمم المتّحدة مفهوم الأسرة من منظورٍ أنثويّ مفرط، يعتبر الزواج وسيلةً لتسلّط الرجل على المرأة، وأنّ الأطفال نقمة عليها، وأنّ المرأة حرّة في التصرّف بجسدها. فكان من البديهيّ أن يُطرح الشذوذ كحلّ لخلاص المرأة من “عبوديّة الرجل” المدعاة، واعتبار الأسرة المكوَّنة من امرأة ورجل يرتبطان برباط شرعيّ أسرةً تقليديّةً نمطيّةً، وضرورة استبدالها بأسرة لا نمطيّة، متحرّرة من القيود والضوابط كافّة، حتّى الفطرية منها. إلى أن وصل بها الأمر إلى عدم ذكر كلمة (الأسرة) كي لا يُفهم منها المعنى التقليديّ (كما يطلقون عليها).

 

وبالفعل، ها هي شعبة المرأة في الأمم المتّحدة تتحاشى ذكر (الأسرة)، وإنّما تعبّر عنها بـ”المجال الخاصّ”، وذلك حتّى لا تضطرّ إلى الاعتراف بالأسرة ككيانٍ أساسيّ في حياة المرأة، وحتّى يتحقّق لهم هدف دمج المجالَين (العامّ والخاصّ) ليصبحا مجالاً واحداً، بحيث لا يكون للأسرة خصوصيّة (المجال الخاصّ)، ومن ثمّ تتمكّن الأمم المتّحدة من الدخول إلى بيوت الناس، واقتحام العلاقة بين الزوجين، وبين سائر أفراد الأسرة، لإفسادها وتدميرها!

 

 

1- تعريف مكتب الإحصاء الرسميّ لسكّان الولايات المتّحدة الأمريكيّة لمفهوم الأسرة.

2- المؤتمر الدوليّ المعنيّ بالسكّان، مكسيكو، 1984م، الفصل الأوّل (ب)/ ثالث، الفقرة (20)، التوصية 13 .

3- المؤتمر العالميّ الرابع المعنيّ بالمرأة، بكين 1995م، الفصل الثاني، الفقرة (29).

4- وثيقة “عالم جدير بالأطفال” 2002م، خطّة العمل ألف – 15.

5- للاطّلاع على البيان المجمع، انظر: United Nations Human Rights Council, Joint Statement, 3rd SESSION OF THE HUMAN RIGHTS COUNCIL, Geneva, December 1, 2006.

6- Wikipedia, the free encyclopedia, LGBT Rights at the United Nations. (translated from English)

7- تقرير مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الانسان عام 2015، الفقرة (ج).

8- Amnesty International,Sexual orientation and gender identity, https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5451102

9- اختصار لـ المثليّات والمثليّين، ومزدوجي الميل الجنسيّ، ومغايري الهويّة الجنسيّة.

10- مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان، تقرير الخبير في شؤون الـLGBT، في حزيران 2017م، بعنوان “التنوّع في الإنسانيّة والإنسانيّة في التنوّع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock