دينية

خصائص دولة الحق المنتضره

 

الشيخ محمّد زراقط.

 

 

على الرغم من مظاهر الخلل الكثيرة في تاريخ الإنسانيّة، غير أنّ هذا التاريخ لم يخلُ من محطّات مضيئة تؤدّي في حياة البشريّة دور النجوم في سماء الهداية، ومن أهمّها الدول التي أسّسها أنبياء إلهيّون وهداة مهديّون خلفوهم واقتدوا بهداهم. وعلى رأس هذه التجارب وأكثرها إشراقاً تجربة الدولة التي أسّسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخليفته بالحقّ أمير المؤمنين عليه السلام. وما زالت البشريّة تستضيء بنور هذه التجربة المهديّة إلى يومنا هذا وتستلهم منها تعاليم وقيماً وقوانين تدير الحياة الاجتماعيّة على قواعد العدل والإنصاف. وعلى ضوء هذا، فإنّ تجربة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لن تغادر تلك الأسس ولن تكون على قطيعة معها، بل ستكمل ما بدأته، إذ تجمع بينهما خصائص مشتركة وأخرى خاصّة بهذه الدولة لم تتوفّر لغيرها.

 

* دولة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: الخصائص المشتركة

المجتمع الإنسانيّ كأيّ كيان أو مركّبٍ آخر يقوم على عدد من الدعائم الأساسيّة التي لا يستغني عنها أيّ مجتمع يراد له البقاء والاستقرار، أو التحوّل إلى بيئة حاضنة تساعد الإنسان على التكامل في هذه الدنيا. فالمجتمع على حدّ تعبير الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره هو ساحة لمجموعة من التناقضات، أحدها التناقض بين الإنسان والطبيعة، حيث يريد الإنسان التحكّم بالطبيعة وهي تحاول الاستعصاء عليه. وثانيها، التناقض بين الإنسان وأخيه الآخر، وهو التناقض بين القويّ والضعيف كائناً ما كان هذا الضعيف فرعوناً أو طبقة (1)… وعندما يشتدّ التناقض بين هذه الأطراف، تنهار أواصر المجتمع، ويؤول هذا الأخير إلى الزوال والدمار.

 

والوصفة التي يقرّرها القرآن الكريم لحلّ هذه التناقضات يمكن استخلاصها من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41). ففي هذه الآية الشريفة يقدّم الله عزّ وجلّ وصفاً عامّاً لجميع الذين يستند تمكّنهم في الأرض إليه سبحانه. وأهمّ الأركان التي تشير إليها الآية وتمثّل دعامة أساسيّة للمجتمع والضامنة لاستقراره، هي:

 

1. العلاقة مع الله سبحانه منطلقاً ومآلاً (إقامة الصلاة والرجوع إليه).

 

2. العدالة الاجتماعية والتخفيف من الآثار السلبيّة للتفاوت في الإمكانات والمقدّرات الاقتصاديّة (إيتاء الزكاة).

 

3. التربية والإصلاح الأخلاقيّ والاجتماعيّ (الأمر بالمعروف).

 

4. الحيلولة دون الفساد بجميع أشكاله (النهي عن المنكر).

 

وقد أخبرنا الله سبحانه في آية أخرى أنّ أحد أهمّ الأهداف المترتّبة على بعثة الأنبياء عليهم السلام هو قيام الناس بالقسط: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25). وقد تكرّرت كلمة قسط ومشتقّاتها ما يقرب من خمس وعشرين مرّة في القرآن الكريم في سياقات مختلفة. من هنا، نلاحظ أنّ أهمّ سمات الدولة المهدويّة هي ملء الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً. وعلى الرغم من هذا الاشتراك، فإنّ دولة الحقّ المهدويّة تختلف في مستوى هذه السمات المشتركة.

 

* التفاوت في جهة الاشتراك

من المعلوم أنّ التجارب البشريّة نسبيّة، وهي تخضع لمقتضيات الزمان والمكان، كما تخضع لقيود البيئة التي تحتضنها. وهذا القانون يصدق على جميع التجارب. ولتوضيح صورة هذا المدّعى يمكن طرح مؤشّرات واضحة لا تحتاج إلى استدلال، وأخرى تستند إلى الأدلّة والبرهان.

 

ومن المؤشّرات الواضحة، لو أنّ شخصاً قتل عشرات الأشخاص، فلا يمكن الاقتصاص منه إلّا مرّة واحدة بقتله حتّى لو قدّم دية دماء البقيّة ممّن طالتهم يد غدره وقتله، فإنّ الدم لا يُوزن بالمال مهما بلغ كثرةً. ومن المؤشّرات الدليليّة أيضاً، الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: “إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ، وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ”(2). ففي هذا الحديث يخبرنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن عدالته المطلقة في تطبيق الضوابط القانونيّة للمرافعات، ولكنّه لا يضمن للمتحاكمين أن يأخذ كلٌّ منهم حقّه، فقد يعطي أحد المتخاصمين حقَّ خصمه، بالاعتماد على يمين كاذبة أو بيّنة كذلك.

 

في المقابل، ورد أنّ دولة الحقّ المهدويّة تختلف عن سائر التجارب السابقة في هذه السمات المشتركة، وذلك لتحقّق أعلى درجة من درجات العدالة والتربية الصالحة فيها، ما يرفع من نسبة تحقّق العدالة أو يقرّبها من الإطلاق. ومن ذلك ما ورد في عددٍ من الأخبار عن إخراج الأرض كنوزها وتوزيع الزكاة على الفقراء، حتّى لا يبقى فقير يقبل صدقة(3). وفي رواية أخرى: “ويملأ الله قلوب أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غنًى، ويسعهم عدله”(4). وفي تعبير ربّما يكون رمزيّاً يكشف عن حلّ التناقضات بين الكائنات: “ولو قد قام قائمنا… لذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم…”(5). وقد وُصِفت هذه الحالة المثاليّة في آية من كتاب الله سبحانه وذلك في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (الصف: 9). من جهة أخرى، يُستفاد جزءٌ كبير من هذه التفاصيل في فكرة ملء الأرض عدلاً في دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهنا، قد يُطرح السؤال الآتي: لماذا لم يتحقّق هذا في تجارب الدول السابقة؟

 

* الفوارق ومبرّرات الاختلاف

إنّ الاختلافات بين دولة الحقّ المهدويّة وسائر الدول السابقة التي عرفتها البشريّة كثيرة، ولكن نكتفي بذكر فارقين اثنين أحدهما يرجع إلى البشريّة نفسها، والثاني يرجع إلى القصد الإلهيّ:

 

1. اكتمال التجربة والعقول: حين يظهر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، تكون البشريّة قد وصلت إلى حافّة اليأس من جميع التجارب السابقة، وربّما يمكن القول إنّها تكون قد جرّبت كلّ المدارس الفكريّة والاجتماعيّة، إلّا أنّها لم تحقّق لها ما تصبو إليه في حياتها. وقد شهد الجيل المعاصر تجارب أطلقت وعوداً عريضةً بالجنّة “الأرضيّة” للناس ولكنّها فشلت في تحقيقها وتحويل تلك الأماني والأحلام إلى وقائع ملموسة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ورد في بعض الروايات: “إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم”(6). ويبدو لنا أنّ هذا الاستكمال للعقول يتوقّف على استعداد مسبق وأرضيّة تتقبّله.

 

2. المقصد الإلهيّ: إنّ التأمّل في عدد من آيات الكتاب المجيد يكشف لنا عن أنّ الإرادة الإلهيّة تصبو لأن تصل عمليّة الخلق إلى غايات أخرى غير التي وصلت إليه حتّى الآن. ومن ذلك قوله تعالى عندما عزم على خلق الإنسان: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). ففي هذه الآية، لا يخطّئ الله الملائكة ولا ينفي عن الإنسان ارتكاب الموبقات وسفك الدماء والإفساد في الأرض، ولكنّه يلمّح إلى غاية أخرى يعلمها هو سبحانه ويجهلها الملائكة في ذلك الوقت.

 

وفي آية أخرى، يقول عزّ وجلّ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5). وقد فُسِّرت هذه الآية في مصادر عدّة بالوراثة المهدويّة للأرض.

 

وأخيراً، تشير هذه الآية إلى إظهار الإسلام على الدين كلّه، ومثل هذا الأمر لم يتحقّق حتّى يومنا هذا، فما زالت الأديان الأخرى والأفكار المنافسة حاضرة بقوّة لا تسمح بوصول صوت الإسلام إلى جميع الآذان، ولا تسمح له باختراق الكثير من الحجب التي تحول بين الناس وبين صوت الحقّ.

 

 

*أستاذ في الحوزة العلميّة، ومدير مركز الحضارة للدراسات.

(1) انظر: المدرسة القرآنيّة، السيّد الصدر، ص 158-160.

(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 7، ص 414.

(3) انظر: بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 52، ص 370.

(4) المصدر نفسه، ج 51، ص 92.

(5) المصدر نفسه، ج 52، ص 316.

(6) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 675.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock