مقالات

كونك على حق لا يعني أنّك ستنتصر لماذا يجب أن نمعن النظر في تجربتنا السياسية

أن تكون جماعةٌ على حق، وأن يكون أعداؤها من أهل الباطل، لا يستلزم بالضرورة انتصار جماعة الحقّ!
فللانتصار شروط أخرى، وجلّها يرتبط بالأوضاع التي ستظهر بعد الانتصار.
الانتصار الاجتماعيّ الكاسح والواقعيّ يعني قبل أي شيء تحقّق الاستقلال السياسيّ، حيث يحكم الناس أنفسهم دون إملاءات أعدائهم، ومن بعده ينبغي تحقّق الاستقلال الاقتصاديّ والثقافيّ. وما دام عدوّك يتحكّم باقتصادك ومعيشتك وثقافتك، أو يكون له اليد العليا فيهما، فهذا يعني أنّك لم تنتصر، وإن كنت بحسب الجغرافيا والعسكر قد حقّقت انتصارات بارزة.
لهذا، إن لم يكن لانتصارك دور في تقدّمك على صعيد الاستقلال بكلّ أبعاده ومراتبه، فلن يكون سوى هزيمة؛ لأنّ الانتصارات التي لا يمكن توظيفها لأجل تحقيق الأهداف الحقيقيّة للحياة الاجتماعية في ظلّ الرؤية التوحيدية، سوف ترتد على أصحابها بإخفاقات أكبر، حتى ليتمنّوا بعدها لو أنّهم لم ينتصروا أبدًا!
قد يكون عدم الانتصار لمصلحة جماعة الحقّ وخيرهم، أو بقولٍ أدق لمصلحة الحقّ نفسه؛ لأنّهم إن انتصروا في حالتهم تلك جعلوا معرفة الحق أصعب وظهور حجّته أضعف. فالانتصارات الاجتماعية التي تفيد الحق هي التي تعلي شأنه وتبرز منارته وتتم حجته، وما عدا ذلك، فسوف تكون وبالًا.
لهذا، لا بد أن تتجهّز جماعة الحقّ لما بعد الانتصار قبل الانتصار، إن هي أرادت النصر الواقعي.. وهذا ما يتطلّب أن تتعرّف أوّلًا إلى كل ما يؤدي دور الحجّية؛ أي إتمام الحجّة على المستضعفين والمؤلّفة قلوبهم، الذين يتواجدون داخل جبهة الباطل، لكيلا يكون لأحد منهم حجّة على الله من بعد الرسل.
فإحدى السنن الإلهية الكبرى، التي لها الحكومة على غيرها من السنن الاجتماعية، هي سنّة إتمام الحجّة الإلهية؛ حيث يُفترض أن لا ينتقل الناس من هذا العالم إن لم يتعرّفوا إلى النموذج والمثال الذي يريده الله تعالى ويأمر به.. فموقف القيامة والحساب هو موقفٌ حتميّ ومعبرٌ ضروريّ، لا بدّ أن تتجهّز الدنيا من أجله. ومن عظمته أنّ الله تعالى تكفّل بلوازمه، ولم يتركه للخلق مهما كانوا، وإن أجراه على أيديهم وألسنتهم.
والمقصود بذلك إنّ “إتمام حجّة الله” أمرٌ يتفوّق على جميع الأوضاع والأحوال ويتحكّم بها، مهما كانت هذه الظروف بعيدة عنه. فلا ينبغي ولا يصح أن يؤدّي عمل جبهة الحقّ وكفاحها إلى إخفاء الحقّ بعد انتصارها، لأنّ ظهور الحقّ هو أساس إتمام الحجة. ولا شيء يمكن أن يخفي الحقّ مثل أن يعمل أهل الحقّ بخلاف الحقّ تحت راية الحقّ!
الذين يدركون هذه الحقيقة جيّدًا، ويفهمون هذه السنّة فهمًا عميقًا، ربما يكونون قد أدركوا العنصر الأول في الانتصار الواقعيّ. وما عليهم إلّا أن يعدّوا العدّة له ويتعرّفوا إلى تفاصيله ومستلزماته.
في زماننا هذا، يبدو لنا أنّ جماعة الحق وجبهته لم تتمكّن لحدّ الآن من تقديم نفسها كبديلٍ حضاريّ أو أنموذجٍ أخلاقيّ ومعنويّ في الحياة الاجتماعية البشرية؛ بل إنّنا نشهد ـ بالرغم من كل إخفاقات وبشاعات جبهة الباطل ـ تفوّقًا واضحًا على صعيد تجربتها الاجتماعية. وإحدى أكبر شواهد هذا التفوّق تبرز في قدرة جبهة الباطل على استيعاب الطاقات وتقدير الإنسان واحترام جهوده؛ ولو أردنا أن نعدّد المظاهر المختلفة لهذا التفوّق، لاحتاج الأمر إلى مقالة أطول. فنكتفي هنا بهذا الفارق النوعيّ الذي له أكبر الأثر في التفوّق الحضاريّ.
فما الذي يتوقّعه أي إنسان من مجتمعه وحكومته وقادته؟ إنّه بكل بساطة تقدير آرائه وتوظيف جهوده وطاقاته، فهذا هو المظهر الأعلى لاحترام الإنسان؛ وما نفع أي احترام وما قيمته إن كان مجرّد كلام أو شعار.. فمن الواضح أنّ جبهة الحقّ لم تتمكّن لحدّ الآن من تشكيل تلك المنظومة والبيئة التي تتمكّن معها من الاستفادة المثلى من الطاقات والأفكار والإبداعات، بحيث تبرز معها كحالة حضارية راقية على مستوى الاهتمام بإنسانية الإنسان وكرامته واحترامها؛ فما بالك إن كان الأمر يرتبط بالحد الأدنى من حسن إدارة ما لديها من طاقات.
ولو وضعنا كل القيم ـ التي لها دخالة في الحياة الاجتماعية وفي إدارتها وتوجيهها ـ أمام أعيننا، لما كان لشيء منها أن يتفوّق على هذه القيمة. فإن لم يحترمني مجتمعي ويقدّر طاقاتي، فماذا تنفعني صلاته وجهاده وتضحياته ودفاعه ومظلوميته وطهارته!
إنّ احترام الإنسان بالمعنى الذي أشرنا إليه هو ركن الحياة الاجتماعية الأول. وبذلك فهو العنصر المحوريّ في التفوّق الحضاريّ؛ ولأجل ذلك يُعدّ مبنى الحجية الإلهية، وقاعدة قيامها وظهورها وتماميتها.
إنّ التفوّق في الكتب والكلام ليس هو التفوّق الحضاري؛ وإنّ المظلومية ليست السبب الذي يحقّق الانتصار. فلكي تتم الحجّة يجب أن يقدّم أهل الحق مثلًا واضحًا على كونهم أهلًا لإدارة العباد والبلاد؛ وإنّما تكون البداية في احترام الإنسان وتكريمه.
أمّا لماذا لم يتمكّن أهل جبهة الحقّ من ترسيخ هذه القيمة في تجربتهم بعد مرور هذه العقود الأربعة، فلهذا أسباب موغلة في التاريخ والثقافة والمعارف، امتزج مع ضعف أهل الحاضر؛ لكنّها ـ رغم شدّتها ـ لا تبرّر عدم التحرّك بالاتّجاه الصحيح.
وهكذا، نصل إلى نتيجة مفادها أنّ الله تعالى قد يبقي جبهة الباطل لتفوّقها الحضاريّ على جبهة الحق، باعتبار أنّها مع باطلها، تتضمّن من عناصر الحجية ما يفوق ما تتضمّنه جبهة الحق؛ فيتّجه المدد الأكثر لجبهة الباطل بسبب ذلك.
فالحياة الاجتماعية قاعدة ارتقاء الحجية وظهورها؛ وهي أشبه بالجسد الذي لا بد من سلامته وحسن قوامه لظهور جمال الروح واستفاضتها من معدنها.. ولا يمكن أن تتم حجة الله على العباد في ظل ترهل اجتماعي واضح، حيث تعشعش القيم السلبية في مفاصله الأساسية وتتغلّب على القيم الإيجابية في حركته.
وليسمح لي القرّاء الأعزاء بطرح هذه الفرضية التي أنطلق في بنائها من بعض الحقائق القرآنية؛ حيث إنّ المدد الإلهيّ لأي مجتمع يشكّل العامل الأول لنجاح تجربته وظهور حجته وبروز قيمه. وعلى رأس هذا المدد أمر لطالما ذكره القرآن الكريم كمؤشّر واضح على المقبولية، وهو مؤشّر حضور السماء. والسماء في الحياة الدنيا تتجلّى في أهم ما تتجلّى به في وفرة الغيث والمطر، وما يجلبه ذلك من تنوّع في الحياة وفي لطافتها. ولعلّ أبعد مثل عن المدد الإلهيّ هو كثرة المال، بالمعنى الذي نعرفه اليوم وتكدّسه المصارف.
فإذا أراد الله تعالى لتجربة اجتماعية أن تبرز، فتح على أهلها أبواب السماء؛ وإن أراد لهذه التجربة أن تفشل أجرى عليهم سيول الأموال. وحين نطبّق هذه القاعدة أو السنّة على عالم اليوم، قد نستنتج أنّ تجربة الغرب الاجتماعية أعلى شأنًا من تجربة أهل الحقّ لكون أبواب السماء أكثر انفتاحًا عليها. لكنّ الله تعالى ما كان يريد لها النجاح أيضًا (لما تحمله من عناصر الضلالة والشر)، فيفتح عليها سيول الأموال كل حين.
لو صح أن نحدد المدد الإلهي بحسب معدل الأمطار، لكان للغرب المدد الأكبر كما نلاحظ في الفارق النوعي في معدلات الأمطار؛ الأمر الذي ينبغي أن نعتبره نتاجًا طبيعيًّا للتفوّق الاجتماعي؛ وكلامنا هنا لا يعني إعطاء أي امتياز إيجابي لتجربة الغرب الاجتماعية، لأنّنا هنا بصدد المقارنة بين تجربتين على مقياس يكون البعض فيه في مستوى ثلاثة تحت الصفر، في حين يكون الآخر في مستوى عشرة تحت الصفر.
فتصوّر معي لو أنّ أهل جبهة الحق استطاعوا أن ينتقلوا من العشرة تحت الصفر إلى اثنين تحت الصفر، أو إلى واحد فوق الصفر على مستوى القيم الاجتماعية. فما الذي يمكن أن يحدث على صعيد فتح أبواب السماء!!
إنّ أفضل مثال من التاريخ يمكن أن يُطرح في هذا المجال هو ما جرى في عصر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حين اضطرّ إلى تسلّم زمام الحكم بعد الثورة على الخليفة الثالث. فسرعان ما آلت أوضاع الأمة إلى جبهتين؛ كانت الأولى جبهة الحق والثانية جبهة الباطل. لكن جبهة الحق كانت تعاني من تأزّمات اجتماعية مفرطة (وهي التي أدت إلى هزيمتها في نهاية المطاف). ومن الدروس التي نتعلمها هنا أنّه لا يكفي للمجتمع أن يكون قائده إمامًا عظيمًا حتى ينتصر؛ فلا ينبغي أن نستكين ونطمئن للمستقبل لمجرد وجود قائد عظيم كالإمام الخامنئي، ونقول إنّنا لا نبالي، ولا نخشى المستقبل طالما لدينا مثل هذه القيادة الطاهرة التقية الحكيمة.
وقد أظهرت سنوات المواجهة بين معسكر الإمام علي (عليه السلام) ومعسكر معاوية تلك الفوارق الحضارية، التي يجتنب الكثير من محبّي علي ومبغضي معاوية التطرّق إليها بالدقة، لغلبة الأحاسيس والعواطف على تحليلاتهم؛ حيث يظنون أنّ أعداء الإمام المعصوم ينبغي أن يكونوا شرًّا مطلقًا من أعلى رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم (رغم وجود العديد من الشواهد في كلمات أمير المؤمنين التي يمكن أن تكشف عن هذه الفوارق بدقة).
وكان كلام الإمام ووصفه للمدد السماويّ لمنطقة حكمه (أي العراق) يلفت نظري دومًا، وكنت أتساءل عن معنى قوله (عليه السلام): “أرضكم بعيدة عن السماء قريبة من الماء”؛ لأنّ العراق كما هو معروف أرض يشقّها نهران عظيمان، لكنها قليلة المطر. وكل من تأمّل في قضية المطر يعلم أنّه من دون مطر السماء من الصعب جدًّا، إن لم يكن من المستحيل، أن يتحقق الازدهار الواقعي، وما يجلبه من بركات سياسية وثقافية.
أجل، يمكن أن يكون معسكر الباطل مقدّمًا عند الله تعالى ليس على صعيد الغاية، لأنّ الباطل زهوق، ولا يمكن أن ينتصر أو يكون من تمام الحجة. في حين قد يكون معسكر أهل الحق مستبعدًا عند الله تعالى لأنه لا يعمل لتأمين مستلزمات إتمام الحجة التي هي أعظم أسباب الانتصار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock